قطف الزيتون: تُظلم النساء بالعمل والأُجرة

قطف الزيتون: تُظلم النساء بالعمل والأُجرة

في بساتين الكورة، حيث يتدلّى الزيتون على أغصانٍ ثقيلة، تتكرر مشاهد تعبٍ صامت لا يلتفت إليه أحد. 

شابة لبنانية في الثلاثينيات قوية البنية، تحمل سلّمًا اطول منها، تتسلقه بخفّةٍ وحذر لتساعد العمال في قطف ما تبقّى من الثمار في أعالي الشجرة. فتقضي وقتها بين مساعدة العاملات والعمال. حتّى أنّها هي من يمدّ الشوادر وتجرّها على ظهرها لوحدها، لا تتشكي ولا تتكلّم. فقط تعمل دون أي تعبير عن انزعاج، مع أن ملامح وجهها كفيلة بنقل ما تشعر.

بالقرب منها امرأة خمسينية من الجنسية السورية تضع منديلاً على رأسها وتتربّع على "الشادر" لتفصل حبّات الزّيتون. تقول وهي تلتقط أنفاسها "عادةً اعمل في تنظيف البيوت، لكن حين يحين موعد قطف الزيتون اعمل فيه حتى اضاعف مدخولي. منذ الصباح وحتى الساعة السادسة وأنا اعمل".

وتضيف "نحن هنا خمس عاملات وشابان، ولكنهما يقبضان اكثر منا في اليوم الواحد". هي لا تتحدّث بحنق بل بواقعيةٍ مؤلمة، فقد صار هذا التفاوت في الأجر أمراً عادياً. بعدما حدد تجمّع الهيئات الممثلة لقطاع الزيتون في لبنان الشمالي تسعيرة العمال لهذا الموسم"  10 دولارات لعامل القطاف، و8 دولارات لعاملة القطاف واللّم، مع دوام لا يتجاوز سبع ساعات فعلية".
 حين نسأل صاحب الارض لماذا يدفع للعمال الرجال اكثر من العاملات يجيب" ماذا تعمل المرأة لأعطيها أكتر؟ تلمّ من الأرض وهي تفترشها. اما الشاب فيتسلّق الشجرة  ويبقى فيها لعدة ساعات"، معتبرًا أنّ "الشاب لديه عائلة يصرف عليها، أو يجب ان يبني حياته ويؤسس عائلة، اما المرأة فهذا مصروفها الشخصي".

لكنّ المشهد في الحقل يروي امرًا آخر: النساء يقمن بكل شيء، من مدّ الشوادر إلى اللمّ، وصولاً إلى الصعود على السلّم لقطف الزيتون من أعالي الأغصان. أعمال تتطلّب قوةً ومهارة وصبراً لا يقلّ عن الرجال، وربما أكثر، خصوصاً تحت شمس الخريف القاسية.

في المقابل يبقى  ما حدده التجمع من ساعات عمل او أسعار، وكما تقول العاملات، "حبرا على ورق". فبين زغرتا والضنية يُلتزم القرار بدقّة، بينما في الكورة يسجل تفاوتٌ واسع، في وجود سماسرة يفرضون أسعارهم على حساب المزارعين والعمال معًا.

ففي بعض الورش، يتقاضى العمّال أجرًا أعلى قليلًا — 12 أو حتى 15 دولارًا لليوم الطويل الممتد حتى المساء — بينما في ورش أخرى يبقى الأجر ثابتًا على 8 دولارات للنساء و10 للرجال. وثمة من ينتهي دوامه عند الثانية بعد الظهر، وآخرون يواصلون حتى الغروب، بلا أي تعويض إضافي.

النساء في هذا الموسم يجدن أنفسهن بين مطرقة الحاجة وسندان الاستغلال. وحين حاولت إحدى الجمعيات الزراعية في الكورة هذا العام أن تنظّم فرق العمل وتراقب الأسعار، اصطدمت بواقع أنّ غياب الرقابة الرسمية يسمح باستمرار العشوائية. فالأجر المتدني لا يُحتسب بالساعة، بل بالنهار من دون اجور النقليات. وتقول احدى العاملات وهي تفرز الزيتون عن الأوراق اليابسة، نتوجه الى الارض سيرا على الاقدام  ونعمل ونأكل  من معلبات وخضار على حسابنا، وحين ننتهي نجمع اغراضنا ونرحل".

الزيتون في الكورة بركة، وهو ليس مجرد محصول. هو ذاكرة الناس وملح أرضهم. وفي الماضي، كانت العائلات تتعاون في القطاف كطقسٍ اجتماعي، اليوم صار موسم الزيتون عملًا قاسيًا تحت سلطة السماسرة والعمال، وخصوصّا النساء، اللواتي يعملن بعرقٍ مضاعف، ويتقاضين أجرًا منقوصًا، في موسمٍ كان يجب أن يرمز إلى العدالة والخصب، لا إلى الفوارق والظلم. علما ان الذين حددوا اجور العمال حذّروا " من استمرار الاستغلال، ودعوا البلديات إلى تعميم التسعيرة ومحاسبة المخالفين، كما طالبوا الجيش بحماية البساتين من السرقات والرعي الجائر.

في نهاية اليوم، وحين تنزل المرأة عن السلّم وتحمل سلتها المملوءة بزيتونٍ أخضر، تبتسم وتقول رغم كل شيء "الحمد لله".

اقرأ المزيد من كتابات جاكي مرعب