الكتب والقراءة في لبنان: التزام ثقافي وسط الانهيار

الكتب والقراءة في لبنان: التزام ثقافي وسط الانهيار

كلما كانت الطالبة الجامعية ( 19 عاما) تمرّ أمام مكتبة أنطوان في وسط بيروت،(قبل اقفالها عام 2019 ) كانت تعود بها الذاكرة إلى أيام المدرسة، حين كانت تدخل تلك الأبواب الزجاجية الصغيرة بشغف طفل يدخل مغارة كنوز. لم تكن تشتري الحلوى أو الألعاب، بل تبحث عن كتب سلسلة "Who Was..."  لتكمل سلسلتها التي تجمعها على رفوف غرفتها. تقف أمام الرف في المكتبة وتبحث عمّا هو جديد وتدوّن عنوان الكتاب الذي اشترته على دفترها لكي تحتفظ بسجل مجموعتها.

تلك السلسلة، التي كانت تصل حديثًا إلى المكتبة، شكّلت بوابتها إلى القراءة، وجعلت من الكتاب الورقي رفيقًا لا يُستبدل. واليوم، بعد أكثر من عقد، لم تعد الصبية  تجد تلك العناوين بسهولة، والأسعار تضاعفت، وحتى عادة القراءة بين أصدقائها أصبحت "نادرة".
 منذ ان تراجع  الدّور الرّيادي للبنان في عالم النشر والكتب، في شكل حادّ في السّنوات الأخيرة، بات الكتاب الورقي مهدّدًا في بيئته الطبيعية. فالانهيار الاقتصادي، وتراكم الأزمات السياسية والاجتماعية، إلى جانب التحوّلات التكنولوجية وانتشار الكتاب الإلكتروني والصوتي، كلها عوامل أضعفت سوق الكتاب الورقي وغيّرت عادات القراءة. وبرزت تحديات جديدة تتعلق بتكلفة الإنتاج، وتفاوت أسعار الكتب العربية والأجنبية، ما أثّر على خيارات القرّاء.

وفي وقت تحافظ بعض الدول العربية على سياسات لدعم النشر وشراء الكتب عبر المؤسسات العامة، يجد الناشر اللبناني وصاحب المكتبة نفسه وحيدًا في مواجهة تحديّات مضاعفة. فهل لا يزال الكتاب يحتفظ بمكانته في لبنان؟ ومن هم القرّاء الذين يقودون هذا السوق في زمن الأزمات؟

مفارقة السوق: لماذا الكتاب العربي أغلى من الأجنبي؟

 تقول ألين مخلوف، وهي موظفة في مكتبة أنطوان منذ 11 عاما ومنصبها الحالي Senior Bookseller، في حديث لـ "cafein.press"، "إنّ نسبة القراءة انخفضت بنحو 20 في المئة مقارنة بالعقد الماضي. ويُعاني السوق اللبناني من مفارقة لافتة: معظم الروايات والكتب العربية، وبخاصة اللبنانية منها، باتت اليوم أغلى من الكتب الأجنبية، رغم أنها تُصنَّع محليًا. السبب بسيط: الناشر اللبناني يضطر إلى استيراد كل المواد الخام، من الورق إلى الحبر وآلات الطباعة، ويطبع كميّات أقل بكثير من الناشر الأجنبي، ما يضاعف كلفة الإنتاج. في المقابل، تصل الكتب الأجنبية ـــــــ ونقصد هنا الروايات والشعر، وليس الكتب الأكاديمية ــــــــ مطبوعة بكميات كبيرة وجاهزة، ما يجعل سعرها النهائي أقل".

وتُشير مخلوف أيضًا إلى دور السفارات في هذا السياق، فتقول إن "السفارات، لا سيما الفرنسية منها، تلعب دورًا أساسيًا في دعم الكتاب الأجنبي من خلال الترويج والتسويق، ما يُسهم في إدخاله إلى الأسواق ومنها السوق اللبناني بأسعار مناسبة وتعمل على الزيادة من الإقبال عليه. أي أنّ دورها يرتكز على ما بعد الطباعة، وبالتّحديد في مرحلة التسويق".

من جهة اخرى تلفت  إلى أنّ سوق المجلات تغيّر جذرياً، "قبل 10 او 20 عاما، كان الطلب مرتفعًا على المجلات الأجنبية، ولكن الآن صار شبه معدوم، لأن  المجلات اصبحت متوافرة أونلاين مثل New Yorker وغيرها.  أمّا بالنسبة إلى الكتب الأكثر مبيعًا حاليًا، فهي تنتمي إلى أدب الـ Young Adults  باللغة الإنكليزية، مع أسماء مثل كولين هوفر ولين باينتر، اللتين أصبحتا مطلوبتين بشكل كبير من فئة المراهقين وطلاب الجامعات. أمّا كتب الأطفال، فلا تزال  تُباع، ولكن بنسبة أقل. فالأهل يشترون الكتب لحديثي الولادة وحتى عمر الثلاث سنوات، بهدف تعليم أولادهم الأحرف، والأرقام، والألوان. وتُباع نحو 50 في المئة منها باللغة الفرنسية. لكن بعد عمر الثلاث سنوات، تنخفض نسبة الشراء في شكل ملحوظ مقارنة بالسنوات الماضية وبالفئات العمرية الأخرى". 

 

ثلاث ضربات أطاحت بالمشهد الثقافي

من جهته، يضع  صاحب مكتبة بيسان عيسى الأحوش ، هذه التحوّلات ضمن إطار أوسع، معتبراً أنّ الكتاب اللبناني تلقّى ضربات متلاحقة. "مبيع الكتب تأثر بانعطافتين مهمتين: أولاً، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الكتاب الإلكتروني والصوتي، وهذا كان مثل عاصفة على المكتبات والناشرين. وثانياً، جائحة كورونا، التي منعت التواصل بين الناس، وأفقدتنا نحن المكتبات والناشرين عوامل حاسمة في عملنا محلية وعربية." 

وفي رأيه، ان لبنان فقد موقعه الريادي لثلاثة عوامل. أوّلًا، توالي الحروب والأزمات وفي طليعتها الانهيار الاقتصادي. ثانيًا، أن الدولة تتجاهل عمدًا أهمية الثقافة ودورها في بناء المواطن الواعي، معتبرًا أن السلطة، ومعها الأحزاب المسيطرة، تفضّل إبقاء المواطن "تابعًا ومطيعًا لنظام طائفي ميت منذ ولادته"، وهو نظام يتعارض بطبيعته مع أي توجه حداثي أو علمي. والعامل الثالث، غياب المؤسسات الداعمة، موضحًا  انه خلال زياراته لعدد من الدول العربية للمشاركة في معارض الكتب، لاحظ أن معظمها يمتلك مؤسسات رسمية تهتم بشراء الكتب، سواء عبر البلديات، أو المدارس، أو الجامعات، أو الوزارات، وحتى من قبل الجيش والأجهزة الأمنية. أمّا في لبنان، فلا وجود لأي من هذه الآليات الدّاعمة، مما يحمّل الناشرين وأصحاب المكتبات أعباء إضافية.

القرّاء الملتزمون هم العمود الفقري

ورغم كل هذه التّحدّيات، يلتقي الأحوش ومخلوف عند نقطة أمل مشتركة: الكتاب الورقي لم يمت بعد. فالأحوش يرى أنّه بدأ يستعيد عافيته تدريجياً ولو ببطء، والسنوات الأخيرة شهدت عودة الشباب إلى المكتبات في شكل لافت، اذ يشكّلون اليوم الشريحة الأكبر من الزبائن. فيما تؤكد مخلوف أن القرّاء الملتزمين، ولو كانوا قلّة، هم الذين يضمنون استمرار السوق، ويشكلون العمود الفقري، لأنهم يشترون ويقرأون بانتظام، ويعتبرون الكتاب حاجة يومية وليست ترفًا".

اقرأ المزيد من كتابات جاكي مرعب