الادب العربي يغادر الجامعات الخاصة والجامعة اللبنانية الحصن الاخير
اذا قرّر طالبٌ اليوم بعد نجاحه في الامتحانات الرسمية أن يدرس الأدب العربي في جامعة خاصّة، فغالبًا لن يجد بابًا مفتوحًا امامه. فالأقسام التي كانت يومًا من ركائز التعليم الجامعي أقفلت أو جُمّدت بصمت. ما يحدث هو أكثر من أزمة تعليمية انه تآكل بطيء في الوعي الثقافي اللبناني.
بين عامي 2018 و 2024، بدأ اختفاء الأدب العربي من معظم الجامعات الخاصّة. في جامعة الروح القدس – الكسليك، أٌغلق قسم الأدب العربي بعد تخرّج جميع التلاميذ الذين كانوا في الفرع، ولم تستقبل الجامعة أي دفعة جديدة. وأعلنت أنها لن تعيد فتحه الا في حال تقدّم أربعة طلاب على الأقل بطلبات تُقبل أكاديميًّا، في إشارة واضحة إلى تراجع الإقبال. أمّا في جامعة القديس يوسف، فالقسم مغلق أيضًا، ويمكن تفعيله فقط اذا سجّل ثلاثة طلاب على الأقل وتم قبولهم، مع وعود بحسومات تتراوح بين 30 و 60 في المئة لتشجيع التسجيل.
اما جامعة البلمند فعند سؤالها عن الاختصاص، جاء الرد، "لا ندري اذا الاختصاص مفتوح الآن ولكن قدّموا ملفكم ونرى حسب العدد اذا كان كافٍ." وفي الجامعة الأنطونية والحكمة الوضع مختلف فالاختصاص لم يكن موجودًا من الأساس على اللوائح الأكاديمية منذ تأسيس الجامعتين.
هذا الانكماش لا يُعلن في بيانات رسميّة بل على العكس فالاختصاص وتفاصيل التسجيل به لا تزال متوافرة على المواقع الخاصّة بالجامعات وينفّذ تدريجيًّا – بصمت – عبر تجميد التسجيل وعدم تجديد العقود التعليمية.
الجامعة اللّبنانيّة... الصّمود الأخير
يقول رئيس قسم اللّغة العربيّة في الجامعة اللّبنانيّة – الفرع الثاني، الدكتور ايلي أبو أنطون "هذا التراجع ليس محصورًا في لبنان بل هو جزء من أزمة عالميّة تصيب العلوم الانسانيّة. فمع تسارع التطور التكنولوجي ودخول الذّكاء الاصطناعي، أصبحت الحياة أكثر ماديّة وتراجع الاهتمام بالقيم والمعاني التّي يحملها الأدب".
لكن رغم هذا التراجع العام، تبقى الجامعة اللّبنانية الملجأ الوحيد الذي لا يزال يحتضن الأدب العربي. ويشير أبو أنطون الى "أن الجامعة اللّبنانيّة لا تزال قادرة على الاستمرار بفضل رسومها المنخفضة – نحو 150دولارًا - ما يسمح للطلّاب من الطّبقات المتوسطة والفقيرة بالالتحاق بها". وعند سؤاله عن احتمالية اغلاق الفرع في الجامعة اللبنانية أيضًا مثل الجامعات الخاصة، أجاب: "لا أعتقد أن يحدث ذلك لأن في السنة الحالية والتي مضت شهدنا تحسّنًا قليلًا في الفرع".
ويضيف" قبل خمسة عشر عامًا كان لدينا في الفرع الثاني نحو 60-70 طالبًا، أمّا اليوم فالعدد لا يتجاوز العشرين. في المقابل، كان يوجد في فرع البقاع ما يقارب 300 طالب، في حين انخفض العدد حاليّا إلى ما بين 80 و100 طالب"، بحسب أبو أنطون، الذي يلفت أيضًا الى أنّ عدد الطلاب المسجّلين في اختصاصات علميّة مثل علم النّفس بلغ 600 طالب في السنة ألاولى. وهذا يوضح الاقبال الكثيف على الاختصاصات غير الأدبية.
في حين لم يبق في الفرع الثاني سوى نحو عشرين طالب، ما زال الاقبال في مناطق معيّنة كالبقاع وصيدا وطرابلس أكبر بثلاثة أو أربعة أضعاف تقريبًا.
وراء هذه الأرقام تكمن أزمة مهنية قاسية. يقول أبو أنطون "ثمة مدارس تدفع ثلاثة دولارات في الساعة وأحيانّا أقل، للمدرس المختص، فكيف يمكن أن نطلب من طالب أن يدرس أربع سنوات بكلفة وجهد، ثم يقبل بهذا الراتب؟ّ!"
وبسبب انخفاض القدرة على زيادة الرواتب تلجأ المدارس إلى توظيف معلمين للغة العربيّة ليسوا متخصّصين بها ويدفعون لهم 70في المئة من الراتب المدفوع لأصحاب الاختصاص. والظاهرة لا تقتصر على الاستاذ العادي الذّي يعطي الحصص، بل امتدّت إلى تعيين المدارس منسق اللّغة من غير خريّجي الأدب العربي.
لا يعني هذا التراجع أنّ القسم في الجامعة يقف مكتوف اليدين، بل يبذل جهودّا متواصلة لاعادة احياء الاهتمام باللغة العربية والأدب داخل المدارس والجامعات. فالجامعة اللبنانية خيط الامل الوحيد لدراسة الادب في لبنان.
يؤكد أبو أنطون "نحن نقوم بجهود كبيرة وننظّم زيارات إلى المدارس الرسمية والخاصة لشرح أهميّة اللغة العربية. ونسعى الى تفعيل التواصل مع طلاب المرحلة الثانوية وتشجيعهم على متابعة دراستهم الجامعية في هذا المجال، والقيام بنشاطات سنوية للأبواب المفتوحة (Open Doors) في الفرع الثاني، يشارك فيها طلاب المدارس ليتعرّفوا عن قرب على برامجهم".
وللتشجيع على الاختصاص أكثر انشأت الادارة منذ ثلاث سنوات ديبلومًا مهنيًّا للغة العربية لمن يرغب بالعمل خارج إطار التعليم التقليدي – مثل العمل في دور النشر، أو في مجال تنظيم المدارس، أو تعليم اللغة للأجانب. هذا البرنامج استقطب بين 8 و 15 طالبًا سنويًّا، ويلقى قبولًا لأنه عملي ومهني ويمنح شهادة خلال سنة واحدة.
لا يرتبط تراجع الأدب العربي في الجامعات اللبنانية الخاصة بضعف الإقبال، بل هو نتيجة تراكمات تعليمية وثقافية واقتصادية تُعبّر عن أزمة أعمق في النظرة إلى اللغة والهوية، حين تصبح اللغة الأم غير مربحة أكاديمياً، وتُقاس قيمتها بعدد المنتسبين لا بدورها في بناء الوعي.ورغم الجهود التي تبذلها الجامعة اللبنانية يبقى الخطر قائماً ما لم تُترجم هذه المبادرات إلى سياسات تعليمية واضحة تحمي العلوم الإنسانية وتعيد الاعتبار للغة العربية كمكوّن أساسي من الثقافة اللبنانية، لان اللغة مرآة لهوية وطنٍ بأكمله، وإذا استمر إغلاق الأبواب أمامه، فلن يتراجع الاختصاص فحسب، بل ستتراجع معه ذاكرة لبنان الثقافية.