بحثًا عن الفنّ المهجريّ الملتزم، وليم نصّار نموذجًا

بحثًا عن الفنّ المهجريّ الملتزم، وليم نصّار نموذجًا

تاريخ لبنان مع الهجرة والاغتراب طويل ومتشعّب الأسباب والإنتاج. ففي النجاحات نسمع ونقرأ أنّ المغتربين رفعوا اسم لبنان عاليًا في بلاد العالم. وفي أوراق النعي نجد أنّ المهاجرين من أهل الفقيد أكثر من الباقين في لبنان. وهذا التاريخ من الهجرات أنتج بين القرنين التاسع عشر والعشرين في الأميركيّتين الشماليّة والجنوبيّة ما عُرف بالأدب المهجريّ. أدب ما زلنا نستعيده ونتغنّى بالتجديد الذي أحدثه والتأثير الذي تركه على أدبنا المقيم.

والغريب أنّنا اليوم، وعلى الرغم من سهولة تواصل المغتربين مع المقيمين، واطّلاعهم على مجريات الأمور في لبنان، لا نجد ما يمكن اعتباره أدبًا أو فنًّا مهجريّين. مع العلم أنّ الحرب وسرقة الودائع دفعا عددًا كبيرًا من الأدباء والفنّانين إلى ترك لبنان، لكنّهم لم يؤسّسوا حركة ثقافيّة تعبّر باللغة لعربيّة تحديدًا، وتعبر البحار والمحيطات لتصل إلينا.

لذلك تبقى حالة الموسيقيّ اللبنانيّ الكنديّ وليم نصّار شاذّة، إذ يصرّ على التمسّك بمبادئ تعيدنا حين يكتب عنها إلى بدايات الحرب. ففلسطين همّه يغنّي لها وعنها، وانفجار بيروت يعنيه فينشد للمدينة التي هاجر منها داعيًا إيّاها إلى النهوض، والأيزيديات يستحققن التفاتة، والشيخ إمام حاضر معه في بلده الثاني، وكذلك غيفارا وفيكتورجارا حتّى أنّه، وهو الشيوعيّ، وضع لحنًا خاصًّا للسيّد حسن نصرالله عقب اغتياله بعد أن كان قد غنّى "حبيبتي المقاومة". ولكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل استطاع نصّار أن يخلق حالة عامّة وأن يصل في لبنان إلى شريحة كبرى من المستمعين؟ هل واكبته وسائل الإعلام كإذاعة "صوت الشعب" مثلًا؟ أم يعتبره كثر آتيًا من زمن يريد الجميع نسيانه وتخطّيه بعد الإحباط الذي يحاصرهم نتيجة فشل الأحزاب وخمود وهج القضايا؟

الجواب يأتينا من نصّار نفسه الذي انتُخب مؤّخّرًا نائبًا لرئيس اتّحاد المؤلّفين الموسيقيّين المحترفين في أميركا الشماليّة، إذ كتب على صفحته في فيسبوك وهو يعلن الخبر: "‏لم أتسلّق على حزب شيوعيّ لأنتهي فنانًا على مسارح البرجوازيّين وناهبي المصارف ومسارح الخليج وممالك سايكس بيكو ولم أنتشر على حساب قضايا الأمّة من فلسطين الى المغرب، منذ أغنية "على طريق عيتات" بقيت محافظًا على ارتباطي وإيماني بالمقاومة ولم أخضع لا للتهديد ولا للشائعات، ولا للاغراءات، ولا للتهميش الثورجيّ الملتزم."

ألا يوحي هذا الكلام بأنّ وليم نصّار يمضي وحيدًا في معركته بعدما توالت خسائر الأحزاب اليساريّة من جهة والمقاومة الإسلاميّة من جهة ثانية وهذه الأخيرة ترفض أصلًا الموسيقى والغناء، وبعدما باتت المنطقة كلّها على أبواب رسم خريطة جديدة لا علاقة لها بسايكس بيكو التي أشار إليها؟

ومع ذلك يبقى نصّار حالة فريدة إذ يبدو كأنّه المهجريّ الوحيد الذي يذكّر بأوضاع لبنان وفلسطين وسوريا، لكنّ هذا الشواذ يثبت القاعدة التي تؤكّد أن لا حركة ثقافيّة مهجريّة واضحة المعالم، بيّنة الأثر كما كانت عليه مثلًا الرابطة القلميّة (أميركا الشماليّة) أو عصبة الأندلس (أميركا الجنوبيّة). فلماذا هذا الإصرار من نصّار على البقاء في بلاد دفعته إلى الهجرة؟ وفي المقابل لماذا ينأى سواه عن هموم الوطن وشجونه؟

الجواب عن السؤال الأوّل مرتبط بحياة نصّار الشخصيّة، إذ بدأ، يافعًا، العمل في الشأن العامّ عبر الموسيقى عدا عن التزامه بالحزب الشيوعيّ، وفقدان شقيقيه في الحرب، وخطف والدته. وبعدما تعرّض لمحاولة اغتيال هاجر إلى كندا، حيث أكمل نضاله إلى جانب إتمام دراسته وتخصّصه الموسيقيّ. هذا الوضع يدفع المرء إلى اتّخاذ أحد الخيارين: إمّا طيّ صفحة الماضي ونسيان كلّ ما يتعلّق بموطنه الأصليّ، أو الإصرار على المضي في التزامه العقائديّ مستفيدًا من إقامته في كندا، ومن موقعه كأكاديميّ وموسيقيّ عالميّ. ونصّار اختار الشقّ الثاني الأكثر تعبًا والأقلّ أمانًا. 

أمّا الجواب عن السؤال الثاني فيستدعي معرفة ظروف كلّ من الأدباء والفنّانين الذين هاجروا واندمجوا كليًّا في محيطهم الجديد. لا شكّ أنّ التعميم هنا يظلم أفرادًا سعوا ويسعون للبقاء على التواصل مع لبنان وزيارته حين تسمح الظروف، فيشاركون في أعمال فنيّة (مسلسلات، لقاءات صحفيّة...) أو أدبيّة (معارض كتب وتواقيع) قبل العودة إلى بلاد اختاروها ملاذًا آمنًا. لكن ما يجمع هؤلاء أجمعين أنّهم لم يسعوا لتأسيس جماعة مؤثّرة تطرح قضايا لبنان، كما حاول جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليّا أبو ماضي ورشيد أيوب أن يفعلوا خلال الحرب العالميّة الأولى حين تنادوا لمساندة أبناء أمّتهم، عبر الكتابة وجمع المساعدات. نستطيع مثلًا أن نسأل ماذا فعل أمين معلوف للبنان من خلال مركزه؟ وهل ساعدت أمل كلوني كمحامية في مساندة أهالي الضحايا الذين سقطوا أو تضرّروا نتيجة تفجير مرفأ بيروت؟  

من الواضح أنّ الهجرة التي حدثت بعد حرب 1975 تختلف كليًّا عن الهجرات السابقة التي أبقت خيوط الارتباط متينة بالأرض والوطن على الرغم من كونه لم يكن بعد قد استقلّ وصار له كيان. من هنا نعود إلى حالة وليم نصّار التي أفترض أنّ السبب فيها والدته الفلسطينيّة، فكانت له الحافز كي يبقى على تواصل مع هذه الأرض المقدّسة بالنسبة إليها: فلسطين المستباحة والمتروكة ولبنان حيث سُفك دم ابنيها الشابّين. لذلك، استثنيت هذا الموسيقيّ الملتزم من مقالة سابقة نُشرت على موقع كافيين دوت برس بتاريخ 12 كانون الأوّل تناولت فيها نهاية عصر الأغنية الملتزمة، إذ اعتبرته حالة اغترابيّة، مهجريّة، ملتزمة، مثابرة، تبحر عكس التيّار في زمن أفول الأغنية الهادفة وغياب أغنيات جديدة تواكب المتغيّرات الخطيرة والمصيريّة. وأردت لفت الانتباه إلى فرادته في مقالة أطرح من خلاله وخلالها صورته كآخر المهجريّين الملتزمين في عالم تغيب فيه القيم، وتسرق حقوق الشعوب ومدّخراتهم، ولا دور للمغتربين فيه سوى التصويت في انتخابات لن تغيّر شيئًا إن لم يتغيّر الشعب.

وفي انتظار رابطة ثقافيّة تذكّر بتاريخ لبنان الحضاريّ وتستفيد من وجودها في بلاد الحريّات والقوانين لتوصل صوت الوجع اللبنانيّ، يبدو كأنّ الرهان "الخارجيّ" محصور حاليًّا بهذا الموسيقيّ الذي يضخّ حياة في الأغنية الملتزمة التي سكتت في بلادنا حين سكتت المدافع، قبل أن تثقل كاهلَ رموزها تأثيراتُ العمر والمرض والخيبة وتغيّر المزاج العامّ.

* أصدر وليم نصّار في الأعوام الستة الأخيرة دزينة أعمال بين أغنية ومعزوفة: نشيد الثورة، حبيبتي المقاومة، غيفارا، رشّة حبق، نحن الأزيديّات، كاتيوشا (باللغتين الروسيّة والعربيّة)، لبنان بكرا، دولا مين (تحيّة لأحمد فؤاد نجم)، غزّة يا عزّتنا، لن أعترف بإسرائيل، فالس لتشرين، رفيقي زياد.

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي