امراض سرطانية وخضار ملوثة: صفقات سياسيّة "تُجهض" جهود إنقاذ الليطاني

امراض سرطانية وخضار ملوثة: صفقات سياسيّة "تُجهض" جهود إنقاذ الليطاني

رغم بوادر الانفراج التي بدأت تلوح في الأفق في عدد من الملفات الوطنيّة، يبقى ملفّ تلوث نهر الليطاني خارج دائرة المعالجة الفعليّة، وكأنّه استُثني من أي خطة إصلاحيّة، فهذه القضية، التي تُعدّ من أبرز الكوارث البيئية، لا تزال تراوح مكانها منذ سنوات، رغم كل التحذيرات والدراسات والمشاريع التي وُضعت لمعالجتها.

ملفّ الليطاني ليس جديدًا على أبناء البقاع، الذين يعيشون منذ سنوات على وقع ازدياد الإصابات بالأمراض السرطانيّة والمزمنة نتيجة التلوّث المستمر، في ظلّ استخدام مياهه لريّ الأراضي الزراعيّة، وما يزيد من خطورة الأمر أنّ هذه المنتجات الزراعية تُسوَّق في مختلف المناطق اللبنانية، ما يعني أنّ خطر التلوّث لا يهدّد البقاع وحده، إنّما يمتدّ إلى موائد جميع اللبنانيين، إذ تُعدّ بلدات برالياس وقبّ إلياس من أكثر المناطق تضرّرًا من هذا الواقع، حيث تقعان بمحاذاة مجرى النهر وتتحمّلان العبء الأكبر من التلوّث البيئي والصحّي الناتج عنه. فمياه الليطاني تستقبل يوميًا كميّات كبيرة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة الآتية من البلدات والقرى المجاورة، إضافةً إلى النفايات الصناعية التي تُصرف مباشرة من بعض المصانع المتواجدة في برالياس وتعنايل والفرزل والمعامل المنتشرة على ضفّتيه، والمخلّفات الزراعية من الأسمدة والمبيدات الكيميائية التي تتسرّب إلى مجراه.

هذا الخليط السام حوّل مياه النهر إلى بيئة ملوّثة تفوق فيها نسب المواد العضوية والمعادن الثقيلة الحدود المسموح بها، ما أدّى إلى تدهور نوعية المياه والتربة، وانعكس على صحة السكان بارتفاع مقلق في معدّلات الأمراض التنفّسية والجلدية والسرطانية التي وصلت إلى حوالي 25 في المئة.

وفي إطار متابعة هذا الملف، يفتح "كافيين دوت برس" القضية محاولًا تسليط الضوء على مكامن الخلل ومواقع التقصير في المعالجة.  

يقول النائب ياسين ياسين  " انّ المشكلة الحقيقيّة تكمن في الجهات السياسيّة التي تغضّ الطرف عن هذا الملف وتسمح باستمراره، مضيفا أنّ "عدم تطبيق القوانين وغياب المتابعة من قبل الأجهزة الرقابيّة هما أساس الأزمة".

وأشار ياسين إلى أنّه في عام 2016 صدر القانون رقم 63 الذي أقرّه مجلس النواب، ورُصد له أكثر من مليار ومئة مليون ليرة ( الدولار بـ 1500) اي ما يعادل 800 مليون دولار،، إضافةً إلى قرض من البنك الدولي بقيمة 55 مليون دولار لمعالجة مصادر التلوث الناتجة عن المكبّات العشوائيّة والكسارات والمصانع، ومع ذلك، بقي التلوث ممتدًّا من النبع حتى المصبّ.

ولفت الى أنّه وجّه سؤالًا رسميًا إلى الحكومة، وتحديدًا إلى وزارات الطاقة، والبيئة، والزراعة، والصناعة، والعدل، ومجلس الإنماء والإعمار حول ما نُفّذ من القانون، مؤكّدًا أنّه يعلم مسبقًا أنّ شيئًا لم يُنفَّذ. 

غطاء سياسي يُهدد الانقاذ
 
أمّا عن نفوذ أصحاب المصانع والكسارات في المنطقة، فأوضح أنّ كثيرين منهم يتمتعون بغطاء سياسي، وبعضهم يشغل مواقع نيابيّة، وأردف قائلًا: "طلبت من ديوان المحاسبة فتح تحقيق في بعض العقود، وتمكّنا فعلاً من منع هدر نحو مليارٍ ونصف دولار في عقد كان يُبرم خارج الأطر القانونية مع شركة وهميّة، لكن المشكلة أنّ الوزارات تلتزم الصمت، رغم قدرتها على ملاحقة المؤسسات المخالفة حتى لو كان أصحابها يتمتعون بالحصانة".

وأسف ياسين لغياب التضامن النيابي، كاشفًا أنّه تواصل مع عدد من نواب البقاع وغيرهم لدعم هذا الملف، "لكن أحدًا لم يتجاوب، باستثناء الإعلام الذي يبقى السند الوحيد في هذه المعركة".
 
 ياسين يُؤكّد واسطفان ينكر...!

يرفع ياسين صوته في وجه تقاعس المعنيين، مطالبًا بإنقاذ نهر يحتضر أمام أعين الجميع، فيما يمدّ عضو تكتل "الجمهورية القوية" النائب إلياس اسطفان النائب يده لكلّ مبادرة إصلاحيّة صادقة، على أمل أن يُفتح الملف مجددًا بجدّية تؤدي فعلًا إلى حلول حقيقيّة. ويقول اسطفان انّ نواب "القوات" يقفون إلى جانب أي خطوة أو قرار يخدم معالجة تلوث الليطاني، مؤكّدًا أنّ " احدًا لم يتواصل معه في هذا الإطار، إلا أنّ نواب القوات مستعدون للمشاركة في أي مبادرة إصلاحية حقيقية، لأنّ مصلحة الأهالي مسؤولية وطنية لا يمكن التغاضي عنها".

يُجمع عدد من الناشطين البيئيين على أنّ البلديات تتحمّل دورًا أساسيًا في الحدّ من تفاقم الخطر البيئي. إذ يُفترض أن تكون خطّ الدفاع الأوّل في مواجهة التلوّث عبر مراقبة مصادر الصرف، وتنظيم إدارة النفايات ضمن نطاقها، لا سيّما في ظلّ غياب المعنيين الأساسيين وتقاعس الجهات الرسمية عن أداء واجباتها. فالتحرّك البلدي يمكن أن يشكّل ركيزة لأيّ مبادرة إنقاذ جدّية، إذا  توفّرت الإرادة والتنسيق بين السلطات المحليّة والأجهزة

ويؤكد رئيس بلدية زحلة وتعنايل، المهندس سليم غزالي، أنّ البلدية تتابع عن كثب أي خلل أو تسريب قد يؤدي إلى تصريف مياه ملوّثة في النهر من نطاق زحلة، مشددًا على أنّ "بلدية زحلة لا تشكل خطرًا على نهر الليطاني، "فالمجلس البلدي السابق بدأ بعمليّة الفرز، ونحن واصلنا العمل، وعند رصد أي خلل يتم معالجته خلال 48 ساعة كحدّ أقصى".

 

في المحصلة، يبقى نهر الليطاني شاهدًا على تواطؤ الإهمال مع المصالح السياسيّة، وعلى غياب الإرادة الفعلية لإنقاذه. وبين جهود فردية مبعثرة وصمت مؤسسات الدولة، يستمرّ النهر في احتضارٍ بطيء يدفع اللبنانيون ثمنه من صحتهم ومياههم وغذائهم. فهل يبقى "الليطاني" مجرّد خطر دائم، أم يأتي اليوم الذي يُكتب فيه فصلٌ جديد تُستعاد فيه الحياة إلى مياهه كما كانت يومًا، صافيةً وشاهدة على حضارةٍ تعرف كيف تصون ما أنعم الله به عليها؟

 

اقرأ المزيد من كتابات كارين القسيس