الميلاد في القرى الحدودية: نورٌ يبدد ظلمة الحرب
يأتي زمن الميلاد هذه السنة، في القرى المسيحية الحدودية، محاولا نفض بعض غبار الحرب التي عاشتها على مدى سنتين، ولا تزال ترزح تحت تداعياتها اليومية. وهو نجح بهمّة شباب بعض هذه القرى ومجالس بلدياتها، في إضفاء جو بهيج، من خلال نشر مظاهر الزينة، أو من خلال النشاطات الميلادية المتعددة. وللسنة الثانية بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، يرفع شباب هذه القرى التحدي من أجل إعادة دورة الحياة إلى قراهم، والسماح لأطفالهم عيش جو الميلاد بفرح، وتشجيع أبناء هذه القرى المقيمين في بيروت ونواحيها، أن ينضموا إلى أهلهم الحدوديين في قضاء أيام العيد معهم.

رغم القلق أعياد تنبض بالفرح
في رميش، توزعت الزينة في طرقاتها الرئيسية، وساحاتها العامة،وارتفعت شجرة ميلادية ضخمة في ساحة الكنيسة. وتعمل البلدية على هذه الزينة بمشاركة عدد من الجمعيات والمؤسسات والأحزاب ، وبتبرعات من متمولين من أبناء البلدة مغتربين ومقيمين.
هذا وقد بدأت رميش تشهد حركة لافتة، ففي ظل الأضواء التي تنير الطرقات، نشطت حركة التسوق. كما بدأت أعداد كبيرة من أبناء البلدة المقيمين في بيروت في التوافد إليها، لتشجيع المقيمين ومساندتهم. وبالفعل فإن رميش، كما سائر القرى، اعتادت أن تستقبل عائلاتها غير المقيمة فيها بمناسبة الأعياد وفي الصيف، إذ إن هؤلاء الوافدين يضفون الفرح على أهلهم، وينشّطون الحركة التجارية، والمطاعم والملاهي والفنادق. وفي مثل هذه الأوقات، التي لا تزال تفتقد إلى الإستقرار، يصرّ أبناء هذه القرى على المجيء إليها للوقوف إلى جانب أهلهم ومؤازرتهم.
وفي عين أبل، كما في رميش، عمّت مظاهر العيد الشارع الرئيسي، ومحيط الكنائس . كما بدأ أعداد من اهلها القاطنين في بيروت التوافد إليها.
ومن نشاطات عيد الميلاد في القرى الحدودية، إقامة الأسواق الميلادية، وهي عدا عن أنها تضفي الفرح ، تجذب الزوار من قرى مجاورة، وتسمح للمزارعين بعرض إنتاجهم المحلي .
هذا ، ويظهر الشباب حماسًا وإصرارًا في البقاء بأرضهم ، وفي إقامة الزينة والإحتفالات مواجهة للظروف القاسية التي عاشوها، وتحديّا للتوترات التي لا تزال تطغى على الأجواء .
إيلي العلم من رميش قال لموقعنا " هذه أرض طاهرة مقدسة وطأتها أقدام المسيح. منذ كان أجدادنا ، كان الإيمان متجذرًا ويتحضرون للعيد بلهفة وشوق. ونحن الأبناء نرثهم فنرفع شجرة الميلاد، ونزين الطرقات والساحات، وتشرع الكنائس أبوابها للمؤمنين. أهلنا في القرى الحدودية تحمّلوا مشقات الصمود، وهول القصف، ووحشية العزلة. هم يربضون في أبعد نقطة عن الوطن، إلا أن الوطن هو أقرب شيء إلى قلوبهم . فليت ولادة المخلص تكون ولادة لجنوبنا ووطننا".

وناشد حصروني، المقيمين في بيروت أن يزداد حضورهم إلى قراهم الحدودية، لتدعيم صمود أهلها.
ميلاد حزين في القرى المدمرة
في قرى أخرى، يأتي الميلاد حزينًا متعبًا . فالحرب دمًرت أقسامًا واسعة من مبانيها ومؤسساتها، وشرّدت غالبية سكانها. وما بقي أعداد قليلة تلملم جراحاتها، تعيد تأهيل بعض المنازل " باللحم الحيّ " وبقوة إيمان صامت . الليل طويل عندهم ، فاشتراكات الكهرباء لم تعمل بعد، و"تيار الدولة" زائر خفيف الظل. الشوارع خلت تماما من المارة والحركة، ولا أصوات تسمع إلا حفيف أوراق الأشجار. حتى صياح الديكة ، وقوقأة الدجاج ، ونباح الكلاب، قد هجّرتها الحرب. عندما تقابل هؤلاء العائدين، تقرأ الهمّ والقلق في وجوههم. وعندما ترى أنقاض الأحياء السكنية، وتعرف أن العائلات قد تقطعت وتفرقت ، والأولاد بعدوا عن أهلهم ، وأن جلّ من بقي كبار في السن، يحرسون ذاكرة منهكة، عندها تدرك حجم المأساة التي يعيشها الناس.

ليلى بشارة من يارون قالت لنا" لا أجواء فرح ، والدمار يحيط بنا " . وعندما أشرنا إلى شجرة الميلاد خلفها ، أوضحت أن المنازل التي يوجد فيها أطفال هي فقط التي وضعت شجرة الميلاد ، كي لا تحرمهم من فرحة العيد.
علما أن بشارة تستضيف عائلة من أقاربها، بعد أن فقدت منزلها في الحرب.
الياس حبمبو، من يارون أيضا، وهو أستاذ متقاعد، قال " العيد يأتي كئيبًا علينا ، فأولادنا تفرقوا . لم يبق هنا إلا كبار في السن وعائلات قليلة مع أطفالها ، لأنها لم تستطع أن تعيش خارج القرية لضيق وضعها المالي. وينهي حبمبو " لكننا مسيحيون لدينا رجاء أن يعم الهدوء ويعود الجميع، ونعيد بناء بيوتنا ".
هذا مع العلم أن العائدين إلى يارون لا يتعدون ١٥ عائلة، من أصل سبعين عائلة مسيحية تقريبًا. كذلك دمرت كنيستها ولم يبق منها إلا حائط خارجي فقط. وقد أهدى أبناؤها البابا لاون الرابع عشر أحد حجارتها عند زيارته لبنان.

أحد أبنائها ، بولس أبو الياس ، قال " تختفي مظاهر العيد عندنا، فالعدد قليل وقسم منهم قرر أن يقصد بيروت كي يمضي العيد مع أقاربه. فالأجواء هنا غير مشجّعة، فهناك قلق دائم، والأعمال توقفت. نعبر عن فرح خجول داخل جدران منازلنا ، على أمل أن يستقر الوضع ونعيد بناء منازلنا ومؤسساتنا ".
وقد كسر هذه الأجواء القاتمة ، حفل صغير أقامته الكتيبة الفرنسية العاملة ضمن اليونيفل، لأطفال القرية، بالتعاون مع البلدية ، وزعت خلاله حقائب مدرسية وألعاب .
ومن الجدير بالملاحظة هنا ، أن قوات اليونيفل قامت وستقوم بنشاطات متعددة في جميع القرى تقريبا، لإدخال البهجة إلى قلوب الأطفال. ومن هذه النشاطات ، قامت الكتيبة الفرنسية بإحياء حفلة كبيرة في مدرسة القلبين الأقدسين في عين إبل ، لأطفال المدرسة ولمختلف الأطفال في القرى المجاورة. وتخلل هذه الحفلة ألعاب متنوعة ، وتوزيع مئات الهدايا .
وينظم مكتب كاريتاس _ إقليم بنت جبيل ، احتفالا لأطفال القرى بالتعاون مع الكتيبة الإيطالية .
من علما الشعب ، كانت صرخة من رئيس بلديتها شادي الصياح " كيف لنا أن نزين شوارعنا ، وقد ودعنا ثلاثة من شبابنا ، وستون بالمئة من بيوتنا مدمّرة ، وأهل البلدة مهجرون قسرًا إلى بيروت، يحملون مفاتيح بيوتهم وينتظرون العودة. ومع ذلك لن نطفئ شعلة الميلاد ، سنقيم مغارة متواضعة، ونضع حولها بعض الزينة البسبطة ، لا لتبهر العيون ، بل لتشبهنا، صادقة ، موجوعة ومؤمنة. وسننظر إلى ما تبقى من بيوتنا، لا كأنها حجارة متعبة، بل كأنها مزود المسيح ، حيث ولد الرجاء وسط الفقر ، والدفء وسط البرد ، والخلاص وسط القهر. هذا هو ميلاد علما الشعب هذا العام : ميلاد بلا كهرباء ، لكن بنور لا ينطفئ . ميلاد بلا بهرجة ، لكن بإيمان عني . المسبح ولد في مغارة ، ونحن سنبقى هنا ، نحرس المغارة ، ونحرس الأرض ، ونحرس الحياة " .









