الحرب والعصر الذهبيّ للأغنية الملتزمة

الحرب والعصر الذهبيّ للأغنية الملتزمة

قبل الحرب لم يكن مصطلح الأغنية الملتزمة يعني ما صار يعنيه فيها وبعدها. كانت الأغنية التي تعالج الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة تسمّى انتقاديّة كما هي حال أغنيات عمر الزعنّي، وبعض أغنيات شوشو، ومجمل الأعمال الرحبانيّة، وكثير من الردّات الزجليّة، وقد أجمع اللبنانيّون على تبنّيها واعتبارها ناطقة باسمهم. ثمّ جاءت الحرب وانقسم اللبنانيّون وصار لكلّ جهة أغنياتها الملتزمة وإن اعتُبرت هذه الصفة خاصّة بجماعة اليسار، في حين رأت جماعة اليمين أنّ أغنياتهم وأناشيدهم هي فعل مقاومة. والسبب في هذا الاختلاف مفهوم. فأغنيات اليسار تبنّت قضايا اجتماعيّة ووطنيّة وقوميّة وبالتالي هي ملتزمة بخطّ عروبيّ أو أمميّ أو اجتماعيّ، بينما ركّزت أغنيات اليمين على لبنان والعمل لصدّ العدوان عنه إن من جهة اليسار اللبنانيّ والطوائف المعادية أو من جهة الفلسطينيّين ثمّ السوريّين. 

في تلك المرحلة برزت أسماء كثيرة خصوصًا لدى جماعة اليسار كمخّول قاصوف وزياد الرحباني ومرسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وسامي حوّاط بينما بدت الأغنيات اليمينيّة أقرب إلى الأناشيد تصدح بها حناجر المقاومين، ما عدا استثناءات قليلة لعلّ باسكال صقر أبرزها.

قد يبدو من الواجب التأكيد هنا على خصوصيّة كلّ من هؤلاء الملتزمين ولا تتّسع هذه العجالة لتفسير ذلك، ومع ذلك تبقى حالة زياد الرحباني خاصّة ولافتة لأنّه لم يكتب أغنية واحدة لفلسطين، وبقي الشأن اللبنانيّ هاجسه الأوّل، ولم ينتقص ذلك من حدّة مواقفه السياسيّة وشجونه في ما يتعلّق بالواقع الاجتماعيّ.

ومع انتهاء الحرب، اختفى الالتزام الحزبيّ أو العقائديّ، علمًا أنّ الأوضاع العامّة، خصوصًا الاقتصاديّة، تستدعي هذا النوع من الأعمال، لذلك عاد الناس إلى أغنيات فيروز ومسرحيّات الأخوين رحباني. وإذا أراد أحد المغنّين الملتزمين إقامة حفل لجأ، في موسم عودة المغتربين، إلى أغنياته القديمة التي ترضي ذائقة جمهورٍ لم يخرج بعد من تداعيات الاقتتال.

فكيف صار الالتزام لصيقًا بالحرب فقط في حين أنّ الأحزاب العقائديّة كلّها تضع القضايا الاجتماعيّة في أوّل اهتماماتها؟ 

قد يكون السبب الأوّل انهيار الأنظمة العقائديّة في العالم ما جعل اللبنانيّين الذين كانوا من أنصارها ينكفئون عنها وعن أغنيات تذكّر بها. وقد يكون السبب الثاني ماديًّا إذا اعتبرنا أنّ الأحزاب، يسارًا ويمينًا، توقّفت عن مدّ المغنّين بالمال الذي لا بدّ منه لتأسيس فرق وتسجيل أغنيات. والسببان كافيان كي ننظر إلى الأغنية الملتزمة على أنّها كانت سلاحًا في الحناجر ومع انتهاء الحرب انتهى دورها. وقد يكون السبب الثالث متعلّق بجمهور من فئة عمريّة شابّة تكره أغنيات الحرب وأناشيدها. وبالتالي فقدت الأغنية الملتزمة أتباعها. 

من هنا تبدو أهميّة الأخوين رحباني اللذين نأيا بأعمالهما عن الارتباط بحاكم أو رئيس أو حزب، فكانا في الحرب لغة جامعة ثم عبرت أعمالهما خطوط التماس والحواجز، ذهابًا وإيابًا، واستمرّت في زمن السلم حريصة على مصالح الناس، تدعو إلى المصالحة والمحبّة والفرح. وساهمت فيروز، إن بصوتها أو بصمتها، فضلًا عن إصراراها على عدم مغادرة لبنان، ملتزمة بالوطن وأهله أكثر من سواها، في تأكيد انتمائها للأرض والإنسان.

أما في الجانب اليمينيّ، فمن الواضح أن لا قضيّة متّفقًا عليها  اليوم كما كان الأمر في مرحلة الحرب أي الخوف على المصير والنظام والوجود المسيحيّ. وبالتالي عمّ ستكون الأغنيات؟ وباستثناء غسّان الرحباني، من يعنيه أن يغنّي عن الفقر والفساد وسرقة أموال المودعين؟ ألم يسبقنا شوشو كلّنا حين غنّى "شحّادين يا بلدنا"،من دون أن يعرّف عن نفسه يومًا بأنّه فنّان ملتزم، وعلى الأرجح لم يسمع بالكلمة، ومع ذلك نردّد أغنيته كلّما ضاقت بنا سبل العيش ونجده ناطقًا باسمنا أكثر من كثر ركبوا موجة الالتزام.

أمر آخر لا بدّ من الإشارة إليه في معرض الحديث عن غياب الأغنية الملتزمة هو كثرة البرامج والمسرحيّات التهكمّية التي تنفّس غضب الناس وتلهيهم عن مشكلاتهم وصعوبات الحياة. فخلال الحرب كانت الأغنية هي الوسيلة، وحين رحل زياد الرحباني روى كثر كيف كانوا يهربّون تسجيلات أعماله إلى "المنطقة الشرقيّة" كي يستمعوا إليها متغاضين عن وجوده مع الطرف المعادي لهم. لكنّ الموسيقى والنهفة الذكيّة عابرة للحواجز. وسائل التعبير اليوم كثيرة: كاريكاتور، رسوم، غرافيتي، مسرح، سينما، توك شو، بودكاست، مواقع إلكترونيّة،... ولكن فلنعترف بأنّها كلّها لا تفعل فعل أغنية واحدة كافية لتحرّك شعور الناس مثل: "بواب الفرح" لمخّول قاصوف وسامي حوّاط،  و"يا بحريّة" لمرسيل خليفة، و"يا ستي ليكي ليكي" لأحمد قعبور، و"غنيّة عاطفيّة" لخالد الهبر،... أو "ع الصخر منحفر كتائب" و"دقّ الخطر ع البواب"، و"أرزة مكلّلة بالغار" و"أرضك الكرامة" و "وعد يا لبنان" وسواها كثير.

هذه الأغنيات والأناشيد استعاد أجواءها في لفتة ذكيّة الفنّان بديع أبو شقرا، بإعداد موسيقيّ للملحّن ريّان الهبر. فتحت عنوان "كاس ومتراس" غنّى أبو شقرا على مسرح تياترو فردان سنة 2018 ما كان يصدح به الحزبيّون من مختلف الطوائف والأحزاب، ويختم الحفل بأغنية "يا زمان الطائفيّة" لزياد الرحباني وكأنّي به يقول إنّ كلّ ما تقدّم ما هو إلّا نتيجة هذه الطائفيّة التي لا يبدو أنّ هناك نهاية لزمنها. وليس أدلّ من هذا العمل الفنيّ كي نكتشف مع حماسة جمهور من مختلف الفئات الطبقيّة والجهات الحزبيّة عبثيّة الحرب وبشاعتها حين لا ينتج عنها سوى أغنية وكاس ومتراس تصمت فيه البنادق ليعلو صوت الغناء. الأمر الذي يحيلني شخصيًّا إلى فيلم "ويست بيروت" حين تقول إم وليد (ليلى كرم) للمقاتلين من كِلا البيروتين ما معناه: هون (أي في بيت الدعارة) ممنوع السلاح وكلكن متل بعض.

الأغنية الملتزمةُ مشاكلَ الناس اليوميّة تولد من الحاجة إليها، قد تكون غاضبة عاصفة أو هازئة ساخرة، لكنّها في كلّ الأحوال تقاوم الزمن وتعبّر عن اهتمام يشؤون الناس السياسيّة وهموم المجتمع الحياتيّة. وها هو عمر الزعني (1881 – 1961) يصف حالنا حين غنّى ساخرًا من الاهتمام بأحصنة سباق الخيل: 

"لو كنت حصان شو عَ بالي

أبو زيد خالي راسي عالي

من الهمّ خالي عايش سلطان.

لو كنت حصان

من سوء حظّي مخلوق إنسان

في جبل لبنان ذليل مُهان

جوعان هفيان حافي عريان

آه يا ريتني حصان".

من الواضح إذًا أنّ الأغنية الملتزمة انتهى دورها أمام كثرة البرامج الانتقاديّة الآنيّة الأثر وموت القضايا الجامعة، وخسرت معركتها حين انتهت الحرب اللبنانيّة التي وقعت بين العقائد والديانات. أما ما يجري في الجنوب وهذا الموت المتواصل قتلًا وانتحارًا وهجرة فلن ينتج عنه إلّا صمت كصمت زياد وموت مدوّ كموته. 


 

زياد الرحباني

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي