الدولة والشيعة: عهد الفرصة الضائعة

الدولة والشيعة: عهد الفرصة الضائعة

رغم التناقض بين مفهوم الدولة السيدة وبين التدخل الخارجي الذي فرض انتخاب العماد جوزف عون رئيساّ للجمهورية، إلا أن عون، ومعه رئيس الحكومة نواف سلام، أهدرا فرصة ذهبية لعودة الدولة إلى الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع الشمالي. 

فالدولة متخلية عن هذه المناطق، منذ ما قبل الاستقلال. ورغم أنها كانت "تزور" هذه المناطق بالأمن، إلا أن "زياراتها" خارج نطاق الأمن بقيت مؤطرة بما انتزعه ممثلو هذه المناطق من حقوق، خصوصاً بعد اتفاق الطائف. ما يُحكى عن دولة حكمتها "الشيعية السياسية" لا يتعدى كونه أسطورة يُراد منها تحميل حزب الله مسؤولية كل مثالب النظام السياسي، خصوصاً بعد العام 2005، وصولاً إلى الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي الذي تسبب به حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في القطاع المصرفي. وهذه تحديداً أسطورة محض، إلا اذا كان مختلقوها مقتنعين بأن رياض سلامة وسمير حنا وسليم صفير وجوزف طربيه ومكرم صادر وأنطون الصحناوي… وهيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف وسواهم من حلفاء واشنطن وأتباعها "الممتثلين" لقراراتها… هم عملاء سريون لحزب الله. 

كل ما امتلكته "الشيعية السياسية"، بعد العام 2005، كان "حق الفيتو" الذي كان يتمدد مجاله أو يتقلص تِبعاً للظروف المحلية والإقليمية والدولية. وبقي "حق النقض" هذا خارج القطاع المصرفي والمالي. وكان على الدوام عاجزاً عن مواجهة النفوذ الأميركي المتزايد في مواقع عسكرية وأمنية وقضائية وإدارية… وكان هذا "الحق" في حالة صراع ونزاع وتفاهم مع "حقوق" مقابلة، طائفية وسياسية ومالية وخارجية. تَقدّم أحياناً، لكنه لم يكن قادراً على فرض شروطه على النظام. ففي طبيعته، هو "حق نقض"، لا قدرة فرض. 

عهد الرئيس جوزف عون حمل معه فرصاً هائلة، لا للعهد ولا للحكومة، بل لمن يريد حقاً بناء دولة.

وصل عون إلى قصر بعبدا في لحظة كان فيها حزب الله وحركة أمل في أضعف لحظة لهما منذ اتفاق الدوحة (2008) على الأقل. عدم تعطيل انتخاب عون رئيساً هو أبلغ تعبير عن حالتهما في تلك اللحظة. وهنا تحديداً وُلِدت الفرصة. كان في مقدور عون وسلام احتضان جمهور حزب الله وحركة أمل المنكوب بالحرب ونتائجها. لكنهما فضّلا سلوك مسار مغاير.

قبل نيل الحكومة الثقة، منعت هبوط الطيران الإيراني في مطار رفيق الحريري الدولي. ولم تلجأ إلى تأمين بديل عبر طيران الشرق الأوسط. كانت تلك الخطوة الرسالة الأولى للشيعة في لبنان بأن "الدولة" تستهدف هذه الفئة من اللبنانيين، مالياً وسياسياً واجتماعياً. 

فالعلاقة بين لبنان وإيران علاقة تاريخية تعود إلى مئات السنين. عندما تولى الشيخ بهاء الدين العاملي أرفع منصب ديني في أصفهان، لم تكن المدرسة المارونية قد أنشئت في روما. والعلاقة بين إيران ولبنان دينية سابقة لانتصار الثورة الإسلامية في إيران. وهي تتمحور حول مقام ثامن الأئمة، الإمام علي بن موسى الرضا، في مدينة مشهد الإيرانية، قبل محورية دور علماء جبل عامل في نشر الفقه والعقيدة الشيعية في إيران منذ قرون، ثم دور حوزة قُم في تخريج علماء الدين الشيعة. وازداد حضور قم بعد الحملة التي جرّدها نظام البعث العراقي ضد الطلاب غير العراقيين في حوزة النجف الأشرف، قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

العلاقة بين شيعة لبنان وإيران ليست أمراً هامشياً. قد تعبّر عن رمزية هذه العلاقة وعمقها اللكنةُ الفارسية في لغة الإمام السيد موسى الصدر. 

وقف الطيران الإيراني كان رسالة شديدة السلبية افتتح بها العهد والحكومة سلسلة من الخطوات التي أهدرت الفرصة الذهبية. كذلك كان لهذه الرسالة وقع أكثر سلبية من معانيها السياسية والدينية والاجتماعية. فمنذ وقف إطلاق النار، بدأ حزب الله حملة واسعة لدفع بدل إيواء أصحاب المنازل المهدمة، وبدل ترميم المنازل المتضررة من الحرب. قيمة ما أنفقه تجاوزت المليار دولار. ولا يخفى على أحد أن هذه الأموال، وسواها مما سيُنفق في الأشهر المقبلة (نحو 500 مليون دولار)، هي أموال أتت من إيران. ووقف الطيران الإيراني كان هدفه المعلن منع وصول المال إلى لبنان. لم تقم الحكومة بهذه الخطوة في سياق خطة لتأمين تمويل بديل. على العكس من ذلك، تركت هذه الخطوة انطباعاً بأنها تهدف إلى منع المتضررين من الحرب من ترميم منازلهم وإعادة إعمار ما تهدّم. 

تعزز هذا الانطباع في تعمّد الحكومة عدم تقديم أي خطة لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب. كانت الحكومة قادرة على توجيه رسالة إلى الجنوبيين والبقاعيين وأهل الضاحية، مفادها أنهم "في نطاق مسؤولية الدولة". كان في استطاعتها أن تُعلن أنها مسؤولة عن الترميم والإيواء، بما يعيد صورة الدولة إلى حياة المنكوبين. لكنها لم تفعل سوى العكس. سلوكها حوّل الحزب وحركة أمل، ومن خلفهما إيران، إلى الجهة الراعية لهذه الشريحة من اللبنانيين. غابت الدولة، فحلّ محلها الحزب والحركة، مرة جديدة. الأسوأ مما تقدّم أن هؤلاء اللبنانيين وصلتهم رسالة من "الدولة" بأنها تبتزّهم بمنازلهم المهدمة. 

على المستوى السياسي أيضاً، كان سلوك الرئيسين عون وسلام أكثر سوءاً منه في الجانب العملي والسياسي. عندما كان الجنوبيون يعودون إلى قراهم (26/1/2025) بعد انتهاء مهلة الستين يوماً المخصصة لانسحاب الجيش الإسرائيلي الذي لم ينسحب… اتصلت مسؤولة أممية بالرئيس عون المنتخب قبل 17 يوماً، لتنصحه بالتوجه إلى الجنوب لمواكبة عودة أهل القرى. قالت له إن وقوفه بين الجنوبيين سيمنح صورة الدولة دفعاً كبيراً، ويجعل المواطنين يشعرون بأداء مختلف للعهد الجديد. وطمأنت المسؤولة الأممية رئيس الجمهورية بأنها قادرة على تحصيل ضمانات أمنية له بعدم الاعتداء على موكبه في الجنوب من قبَل الجيش الاسرائيلي. لكن رئيس الجمهورية لم يفعل. وعندما زار الرئيس نواف سلام الجنوب، تعمّد تجاهل لقاء الناس مباشرة، وعدم الاعتراف بممثليهم النيابيين والبلديين. بدا سلام كمن لا يعترف بوجود الجنوبيين الذين لم يخاطبهم بأي كلمة تُشعرهم بأنه رئيس لحكومة كل لبنان. 

السلوك ذاته تكرر عندها اعتدى الطيران الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية أكثر من مرة. لم يزرها رئيس الحكومة. وعندما عاتبه مسؤولون حزبيون على كونه لم يقف إلى جانب أهل الضاحية، أجاب باستخفاف: "المرة الجايي بنزل". 

قبل انتخابه رئيساً للجمهورية، اتخذ العماد جوزف عون قراراً بوقف نشر الجيش في الجنوب، يوم 30 تشرين الثاني 2024، أي بعد ثلاثة أيام على وقف إطلاق النار. هذا القرار يرى الجنوبيون أن العدو الاسرائيلي استغله لتوسيع رقعة احتلاله للأرض الجنوبية، وللوصول إلى حيث عجز إبان الحرب. قرى جنوبية عديدة تعرّضت منازلها للتفجير بعد وقف إطلاق النار بقدر يفوق ما جرى عليها إبان الحرب. كانت الفرصة متاحة لمواجهة سياسية ودبلوماسية، أو على الأقل لمحاولةٍ تجعل الجنوبيين يشعرون بأن في بيروت "دولة" مستعدة للدفاع عنهم وعن أرزاقهم. 

سياسياً أيضاً، أعلنت السلطة السياسية، في أكثر من مناسبة، أن لبنان نفّذ ما عليه من اتفاق وقف إطلاق النار. آخر إعلان لهذا المضمون، صدر بقرار من مجلس الوزراء يوم 5 أيلول 2025. في الوقت عينه، كان الجيش الاسرائيلي يعتدي على الجنوب البقاع والضاحية، من دون أن تقوم السلطة السياسية بأي خطوة من شأنها جعل الجنوبيين والبقاعيين يشعرون بوجود طيف دولة. لا أحد منهم يتوهم بأن "الدولة اللبنانية" ستخوض حرباً. لكن كل ما كان مطلوباً منها هو الموقف العملي والرسالة الموجهة إلى الناس بأنها لا تستخف بأرواحهم وبدماء نحو 230 شهيداً من أبنائهم. 

باختصار، سياسياً، إنسانياً، مالياً، عسكرياً، دبلوماسياً… على جميع الصعد، كان العهد والحكومة أمام فرصة تاريخية لإظهار وجود دولة. لكن الرئيسين آثرا ممارسة سلوكيات فَهِم أبناء الجنوب والبقاع والضاحية منها أن العهد والحكومة يفضّلان استغلال الدمار والدماء للضغط على المنكوبين ودفعهم للتخلي عن خياراتهم السياسية. 

ربما يحاجج البعض بأن ما تقدّم لم يخطر في بال الرئيسين، وبأن نواياهما سليمة. لكن هذه المحاججة ستكون بلا طائل، لأن المهم في هذه الحالة هو الانطباع الذي رسخ في أذهان الناس، نتيجة سلوك لم يقترب من سلوك الدولة ورجالها. 

باختصار أكثر، الفرصة ضاعت، ومن الصعب الرهان على أنها ستتكرّر.