عكار : خزان موارد طبيعية وبيئية يجذب السيّاح والباحثين

تتميز محافظة عكار بطبيعة خلابة وهبها الله إياها. وكما هي خزان الجيش والمؤسسات، كذلك هي خزان بيئي وبيولوجي ثمين، حيث تتشابك فيها السهول مع الجبال لتشكيل فضاء ريفيّ مصبوغ ببصمة حداثية، يحتضن موارد طبيعية هائلة، لا تزال الكثير من أوراقها مخفية، حتى عن أهاليها.
غابات فسيحة يبحث عنها اللبنانيون لتكون متنفسهم من ضغوط اليوميات، وأشجار ونباتات، بعضها نادر. لكنها كانت في حاجة إلى مبادرات مجتمعية لإنتاج أطر عمل تشاركية تحفظ هذه الثروة، وتنقّب في ثناياها لإخراج المخفيّ فيها، وتساعد في الوقت نفسه على تسويقها للمهتمين من باحثين وسياح ورواد، وكسر الصور النمطية التي كانت سائدة عن عكار.
درب عكار توثيق نباتات نادرة مهددة بالانقراض
في السنوات الأخيرة ظهرت بعض المبادرات المثيرة للاهتمام منها هي جمعية "درب عكار" التي ولدت عام 2017، عبر مجموعة من الناشطين المهتمين بالبيئة، بهدف حماية التنوع الطبيعي والأيكولوجي وتنميته، وتعزيز الوعي البيئي، واستقطاب السياحة البيئية، ودعم السلطات المحلية والمجتمع. واستطاعت خلال سنوات قليلة أن تترك بصمة على صعيد العمل الجدي والمستدام.
يبين رئيس جمعية درب عكار المهندس الزراعي علي طالب وجود "نحو 2700 نوع نباتات برية في لبنان، وثقت درب عكار وجود نحو 70 في المئة منها في المحافظة. وتعاونت في هذا الإطار مع طلاب الجامعات في الاختصاصات المتصلة بهذا الشأن".
اهتمت الجمعية بتوثيق نبتة "الأوركيدة" البرية، لكونها تعد من عوامل سلامة البيئة، حيث ترتبط بعلاقة تكافلية مع نوع من الفطريات لا يظهر إلا في بيئة صحية. يقول طالب "من أصل 86 نوع منها في لبنان، وثقنا 70 نوع من هذه النبتة في عكار"، الأمر الذي يعد ثروة كبيرة في التنوع البيولوجي. كما جرى توثيق أنواع نباتات نادرة للمرة الأولى في لبنان، مثل سوسن البازلت "Iris Basaltica" وهي زهرة نادرة ومدرجة على اللائحة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض".
ويشير طالب إلى أن الجمعية أجرت أول عملية زراعة ناجحة لنبتة "الأوركيدة" في لبنان في مختبر "درب عكار للدراسات البيئية" المتخصص، والذي يضم قسم الزراعة النسيجية لزراعة كل النباتات النادرة والمهددة بالانقراض، وقسم التنوع البيولوجي الخاص بالنباتات والحشرات، إلى جانب إنشاء "متحف درب عكار الجيولوجي"، و"مشتل درب عكار للأشجار والنباتات البرية"، و"فريق درب عكار لمكافحة الحرائق والإنقاذ الجبلي".
نمو الغطاء الأخضر في لبنان
إلى ذلك، يكشف طالب عن نمو الغطاء الأخضر في لبنان، على عكس الشائع والمترسخ في الأذهان. ويرى ان سبب ذلك هو نقص الضغط البشري على النباتات والأماكن المشجّرة مع كثافة الانتقال نحو المدن للعمل والتعلم. لكن هذه الثروة تواجه العديد من المخاطر منها: التمدد العمراني الذي يؤدي إلى إزالة آلاف الأشجار، نسبة الحرائق العالية في عكار مع وجود مساحات خضراء كبيرة جداً، بما يزيد من تمدد الحرائق، قطع الأشجار وآثارها الكارثية وقد تطورت هذه الظاهرة بفعل الأزمة الاقتصادية والمعيشية وحاجة الناس إلى مواد للتدفئة، مما يعرض الأشجار المعمرة مثل اللزاب والأرز والشوح إلى خطر شديد. ويكشف طالب عن محاولات جدية لتأمين تمويل يغني عن قطع الأشجار ويهدف إلى حل المشكلة من جذورها "هناك مراقبة مستدامة للغابات بالتعاون مع البلديات وبالتنسيق مع وزارة الزراعة، لكن إذا لم نقدم للناس بديلاً جديًّا سيبقى القطع مستمرًا".
ومن الحلول التي تسعى "درب عكار" إلى تنفيذها ، تأسيس معمل للحطب الصناعي الناتج عن عمليات التشحيل الموسمي من الأراضي الزراعية والأحراج، لتحويلها إلى حطب للتدفئة وبأسعار رمزية، وفي نفس الوقت حماية الغابات، وتخفيض الكتلة الحيوية القابلة للاشتعال فيها.
أما على صعيد مكافحة الحرائق التي أرهقت الغطاء الطبيعي في لبنان خلال السنوات الماضية، فقد برز الفريق الذي أنشأته جمعية "درب عكار" عام 2020، وكان له دور يشهد له في التصدي الفعال للحرائق. يضم هذا الفريق نحو 20 متطوعًا، مع آليتين جاهزتين للدخول إلى الأحراج والمناطق الوعرة في الجبال والوديان التي تكثر في تضاريس عكار.و"الآليتان من تصميم الجمعية وبجهود فردية، كل واحدة فيها 500 متر من الأنابيب البلاستيكية يمكنها الوصول إلى عمق الغابات والأماكن الوعرة".
تكمن أهمية ما فعلته الجمعية في الابتعاد عن الارتجالية، لإنتاج سياسات فعالة لمكافحة الحرائق، ترتكز على مزج العلم بالموارد البشرية والتقنية المتاحة، والتي يتم العمل على تطويرها تقنيًا وماديًا في شكل دؤوب. بالإضافة إلى تأسيس مجموعة على تطبيق "واتساب" مخصصة للرصد والإنذار المبكر وتشمل كل عكار "أي دخان يصعد إلى سماء عكار يصل خبره إلينا في غضون دقائق على عكس الماضي، بما يساعد على سرعة التدخل والحؤول دون تمدد الحريق".
السياحة البيئية
تجذب تضاريس عكار عددا كبيرا من المهتمين بدروب المشي الجبلي وتعتبر هذه الرياضة ناشطة فيها، وتُنظم اليها الرحلات في شكل مستمر .
وتنشط "درب عكار" في الأصل للعمل على تعزيز السياحة البيئية واستقطاب السياح من خلال تسويق النشاطات المرتبطة بها، مثل الـمشي واستخدام الدراجات وغيرها، بالإضافة إلى السياحة التي تركز على الطيور، وتعريف الناس على التنوع البيئي والبيولوجي في عكار، وذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي.
إلى جانب ذلك تعمل درب عكار على نشر الوعي البيئي في المجتمعات المحلية للحفاظ على الثروة البيئية لإنتاج رقابة ذاتية، وتدريب الأدلاء الجبليين، والأهم كسر الصورة النمطية عن عكار. واستطاعت قطع خطوات جادة في هذا المجال، وتوسيع أطر التعاون مع وزارة البيئة والزراعة والبلديات واتحادات البلديات، وتشكيل حافز لتطوير مبادرات مشابهة في مختلف أرجاء البلدات العكارية.
وفي آب الماضي، أعلنت "درب عكار" عن تركيب أول محطة للرصد الجوي وذلك في بلدة "مشمش"، من أجل توفير بيانات أكثر دقة للأحوال الجوية بما يفيد في تحقيق عدة أهداف: دعم الأبحاث العلمية والدراسات البيئية والزراعية بما يخدم التنمية المستدامة في عكار، تعزيز الرصد الزراعي لمساعدة المزارعين على التخطيط لمواسم الزراعة والري ومكافحة الآفات، وزيادة الاستعدادات لمواجهة حرائق الغابات والكوارث الطبيعية، وبناء قاعدة بيانات مناخية طويلة الأمد تساعد على فهم التغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة، وإتاحتها أمام الطلاب في الجامعات والمدارس.