الحركة الكشفية لا تزال ناشطة: مدرسة في الانضباط والتكيّف

الحركة الكشفية لا تزال ناشطة: مدرسة في الانضباط والتكيّف

" كنا قد اقمنا مخيمًا في احدى البلدات الجبلية  لـ 35  عنصرًا من الكشافة اعمارهم تتراوح بين 6 و9 سنوات، وكنا ثلاث قائدات ومعنا ثلاثة مساعدين. وخطر لاحد ابناء الضيعة ان يحذّرنا من الخنازير البرية، كي نترك المكان الذي نصبنا به الخيم القماشية. فبقينا ساهرين طوال الليل خوفًا من الخنازير البرية. ولا نزال نتذكر تلك السهرة ونحن نضحك. لكن رغم خوفنا بقينا سبعة ايام في المخيم".

تروي احدى القائدات من قدامى الكشافة هذه الرواية وهي تضحك لمجرد تذكرها الرواية.

كان الدخول الى الكشافة بمثابة مغامرة لكل من مرّ بهذه التجربة التي لا ينساها من اصبحوا في عمر متقدم. يدخل بعض الأطفال إلى الحركة الكشفية بتأثير من أصدقائهم أو بدافع تشجيع الأهل، لكن القاسم المشترك بين الجميع هو أنّ التجربة نفسها، بما فيها من تحديّات يومية ومغامرات ومساحات تعلّم، هي التي تصنع الانتماء الحقيقي. 

هل لا يزال اطفال لبنان يلتحقون بالكشافة، بدل الانغماس في عالم الالكترونيات؟ 

رغم تغيّر الأجيال واختلاف أساليب التربية، لا تزال هناك فرق كشفية، ولا يزال الاهل الذين يهمهم ان يتعلّم اولادهم الانضباط والالتزام والمبادىء الكشفية يرسلون اولادهم الى الكشافة، ليكتسبوا صفات تساعدهم في حياتهم العملية. ولا سيما الاهل الذين سبق ان انتسبوا بدورهم الى هذه الحركة. اذ تبقى الكشافة مساحة تحاول الحفاظ على جوهرها:تكوين فرد قادر على الاعتماد على نفسه، وعلى التكيّف مع الظروف، وعلى مشاركة الآخرين والتواصل معهم بوعي ومسؤولية.

هذا ما تؤكده المسؤولة في كشافة الاستقلال ميّا طوق التي ترى في الحركة الكشفية مساحة شمولية لا تقتصر على نشاط واحد، بل تجمع بين الرسم، الرياضة، التدريب، العمل التطوعي، والاحتكاك المباشر بالطبيعة. وتروي كيف أن الأطفال، رغم تعلّقهم الشديد بالأجهزة الإلكترونية، يتعلمون تدريجيًا التخلي عنها في المخيمات، ليكتشفوا متعة التواصل الحقيقي.كثيرون يتذمرون في الأيام الأولى، لكن ما أن يبدأ الانغماس في تفاصيل المخيم، ترتيب المكان، إدارة الوقت، توزيع المهام، حتى تتغير نظرتهم بالكامل. وميا نفسها تعترف بأنها أصبحت أكثر هدوءًا في المواقف الطارئة مقارنة بأصدقائها غير الكشفيين، بفضل الدورات التدريبية التي خضعت لها، سواء مع الصليب الأحمر أو خلال نشاطات الحركة.

ميا طوق

بدورها تروي هناء ميما،  وهي اليوم في عامها السادس داخل كشافة لبنان، كيف ساعدتها التجربة على كسر حاجز الخجل والتعامل مع مختلف طبقات المجتمع. هي واحدة من الذين يلاحظون بوضوح الفجوة بين الأجيال داخل الحركة"جيلنا متساهل أكثر"، تقول، "بينما الجيل السابق كان أكثر صرامة في تطبيق القواعد، وأكثر تشددًا في الأعمال الميدانية". ومع ذلك، لا ترى هناء هذا التغيير سلبيًا بالكامل، بل نتيجة طبيعية لتطور الزمن. لكنّها تعترف أن بعض القيم لا تزال ثابتة: احترام الآخر، التعاون، الانضباط، وبناء ذكريات تبقى رغم تغيّر الأساليب والظروف.

هناء ميما

تجربة رواد الحاج، الذي أمضى أكثر من 21 سنة في كشافة لبنان، تسلّط الضوء على هذا التناقض. يتذكر أيامًا كانت فيها الصلابة معيارًا أساسيًا: النوم على الأرض من دون تجهيزات، الاعتماد على الموارد القليلة، واختراع حلول يومية للبقاء. في أحد المخيمات، نفذت الميزانية قبل انتهاء النشاط، ما دفعه إلى التفاوض مع صاحب مزرعة دجاج لتأمين الطعام للمجموعة بأسعار شبه رمزية. بالنسبة الى رواد، كانت تلك الأيام "مدرسة حقيقية" في القيادة والتخطيط. لكنه اليوم يرى أن الجيل الجديد يعيش التجربة نفسها بطريقة مختلفة: أقل قسوة، لكنها أكثر وعيًا وتنظيمًا.

رواد الحاج.jpg 33.21 KB

نيكول عيد، التي أصبحت اليوم طبيبة بيطرية ناجحة، تؤكّد هذا الربط بين الماضي والحاضر من خلال قصتها الخاصة. لم  تنم في المزارع خلال سنواتها الكشفية، بل خلال فترة عملها المهني، عندما اضطرت للمبيت في أماكن غير مريحة والتعامل مع الظروف القاسية في الإسطبلات. لكنها تشدد على أمر واحد "لو لم اكن في الفرقة الكشفية، لما كنت استطعت ان  أتأقلم مع هذا النوع من العمل".

نيكول عيد

 الحياة الكشفية، بكل صعوباتها الصغيرة، من ترتيب الخيم، إلى تحمل الطقس، إلى اتخاذ قرار سريع تحت الضغط، صنعت لديها قدرة على التكيّف ساعدتها اليوم في مواجهة عالم الطب البيطري، الذي يتطلب صلابة نفسية وجسدية في آن واحد.

اللافت أن هذه القصص، رغم اختلاف أصحابها، تتقاطع في نقاط جوهرية.وكل شخصية من هذه الشخصيات تحمل جزءًا من الحقيقة الأوسع أن الكشافة ليست نشاطًا جانبيًا، بل تجربة حياة متكاملة. 

ورغم التغيرات التي طرأت على أسلوب التربية والظروف المحيطة بالحركة، يبقى تأثير الكشافة ثابتًا. إنها فرصة لبناء شخصية مستقلة، مسؤولة، متعاونة، قادرة على الاختلاط مع مختلف فئات المجتمع، وتمتلك ذكريات لا تُنسى. ومنها كما تختم احدى القائدات بالقول انها خلال احدى مهماتها رفض احد الكشافة الصغار، تناول " المدردرة" ورمى الصحن على التراب، لكنه عاد واكله ممزوجا بالتراب. بعد سنوات التقت بوالد الطفل وقد اصبح شابًا فذكّرها بالحادثة قائلا لها، بفضل هذه الحادثة تغيّر ابني واصبح اكثر مسؤولية وانضباطًا.

اقرأ المزيد من كتابات طوني حداد