ماكرون يتحايل على أزمات الداخل بأداء دور الوسيط الدولي

حتى الآن، عايش الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ستة رؤساء حكومات في عهديه الأول والثاني، بدءاً بإدوار فيليب، جان كاستكس، إليزابيث بورن، ومن ثم غابرييل أتال، ولاحقاً ميشال بارنييه وفرنسوا بايرو. والأخير يستعد للرحيل بدوره إذا فشلت حكومته في حيازة الثقة من البرلمان في الثامن من أيلول الجاري، رغم محاولته الأخيرة الدفاع عن موقعه واتهامه قوى سياسية بأنها تسعى إلى إثارة الفوضى.
يدخل ماكرون بذلك الثلث المتبقي من ولايته على وقع تأكيداته أنه لن يرحل وأنه سيكمل ولايته حتى نهايتها. وهي ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الرئيس الفرنسي بحملة لإنهاء ولايته، ولكنها هذه المرة تأخذ طابعاً مختلفاً ليس لجهة احتمال حصول انقلاب يسقطه كما في العالم الثالث، إنما لناحية أنه يراكم الأزمات التي تحيط به بعدما كثرت مشكلاته الداخلية ولم تستطع حكوماته المتتالية أن تخرج برصيد إيجابي بعد ثماني سنوات في الإليزيه.
لعلّ ماكرون أكثر الرؤساء الذين وجدوا في الخارج فرصة للهرب من مشكلات الداخل، فتراكمت عليه، وهو تنقّل من ملف إلى آخر، أوروبياً وأفريقياً، ومن ثم حرب أوكرانيا، والعلاقة مع ألمانيا وبريطانيا، والولايات المتحدة والشروط التي ترفعها ضد أوروبا تجارياً واقتصادياً. أكثر من زياراته الخارجية يوم كانت باريس تواجه أزمة تلو الأخرى، ووصل في ذهابه بعيداً خارج الحدود الفرنسية إلى غرينلاند، التي أوفد إليها وزير خارجيته جان-نويل بارو قبل أيام في الإطار نفسه، لتأكيد وحدة أوروبا في موقفها المدافع عن غرينلاند إزاء طموحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وحاول أن يؤدي دور الوسيط في مشكلات الشرق الأوسط ولبنان تحديداً، وحرب غزة ومن ثم سوريا. كل ذلك لم يجعل منه رئيساً فوق العادة في الداخل الفرنسي، بل إن تراكم مشكلاته منذ ولايته الأولى -والتي لم تكن لتتجدد لولا التصويت المضاد لليمين المتطرف مارين لوبن- تضاعف تدريجياً بحيث باتت فرنسا تعيش على إيقاع مشابه لإيطاليا التي كانت تشهد تباعاً أزمات حكومية وسياسية لا تتوقف.
الاستحقاق الجديد
في الساحة الفرنسية، يدخل ماكرون استحقاقاً جديداً في مواكبة مشكلات القوى السياسية لاختيار شخصية جديدة تتسلّم الحكومة التي يفترض أن تكون الأخيرة في عهده، إلا إذا تكررت السيناريوهات السابقة التي جعلت الحكومات لا تعمر أكثر من أشهر قليلة. في العادة، لو تغيرت حكومات عهود الرؤساء السابقين، لم تكن لتتبدل تحت وطأة مثل هذا الاهتزاز الداخلي، والذي يكاد يتحول مرة أخرى إلى صراع داخلي بين حدّين: تغيير الحكومة وفق اتفاق يكاد يكون تعجيزياً بين القوى السياسية، أو حل البرلمان مرة أخرى والذهاب إلى انتخابات جديدة، مع ما تحمله من أخطار فرنسية لها تأثيراتها على ما تبقى من ولاية ماكرون وصولاً إلى معركة الرئاسة. وسيكون أمام ماكرون أقل من أسبوع لإيجاد مخرج للأزمة وإيجاد صيغة بين قوى متناحرة من اليمين والوسط واليسار بمختلف تشكيلاته، وهي مهلة لن تكون كافية، بعدما صار للجميع مصلحة في التضييق عليه وعدم إعطائه أوراقاً رابحة ومطمئنة في أشهر ولايته الأخيرة. فمشكلة التصويت على الثقة، وإن كان شكلها الخارجي والصحيح مالياً واقتصادياً يتعلق بخطة التقشف وسط تضخيم متعمد بتدخّل صندوق النقد لمعالجة الوضع الاقتصادي، إلا أن باطنها يتعلق بالاستعداد لمعركة الرئاسة في نيسان 2027. وعلى هذا الموعد تتداخل أوراق وطموحات القوى السياسية في إيجاد مخرج للأزمة الحكومية.