بين التلاعب المحلي والقيود الخارجية: سوق الذهب يواجه أزمة؟
«هل أجد سوارًا بهذه النقشة؟»، سألت إحدى السيدات صاحب محلّ للمجوهرات في بيروت. أجابها: «هذه الفترة ليس لدينا الكثير من البضاعة، نُركّز أكثر على الليرات والأونصات، لأنّ الطلب عليها أعلى».
الطلب أعلى على الذهب الخام، بحسب صاحب محل الذهب هذا، ولكن منذ فترة عانى السوق نقصًا في هذه السلعة، ما أدّى إلى ارتفاع العمولة محليًّا عليها. مشكلة النقص لم تكن فقط لبنانية، بل برزت عالميًّا أيضًا بسبب تزايد الطلب على الذهب، مع بدء مرحلة صعود السعر في الأشهر الماضية. نتيجةً لذلك، تهافت الناس، ووقفوا في طوابير على أبواب محلات الذهب للشراء خوفًا من تصاعد الأسعار أكثر.
يقول رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات، نعيم رزق في اتصال مع «كافيين دوت برس» إنّ «الطلب على الذهب كان أكبر من الكمية التي كانت تصل من الخارج». ينفي أحد أصحاب محلات الذهب رواية النقص في كميات الذهب الخام داخل لبنان، واصفًا ما جرى بـ«الاحتكار الذي مارسه كبار التجار». عندما يزيد الطلب - مثلًا - على الأونصة، «يخبّئون الكميات التي لديهم لبيع جزء منها بسعر أغلى، ويوهمون الزبون أنهم أمّنوا طلبه بصعوبة»، أي يعملون كما لو أنّهم «في السوق السوداء»، على حدّ قول صاحب محل الذهب.
لا ينفي نقيب معلمي صناعة الذهب والمجوهرات بوغوص كورديان ذلك. فقد قال في حديث مع «كافيين دوت برس» إنّ «التاجر يحق له القيام بذلك. هذا أمر طبيعي وليس احتكارًا». برّر ذلك بأنّه «عندما يشتري التاجر ذهبًا على سعر مرتفع، ثم تنخفض الأسعار، يحقّ له أن يُخبّئ جزءًا من البضاعة أو لا يبيعها كي لا يخسر».
نفي النقيب صفة الاحتكار عن ممارساتٍ تقوم على حجب المعدن عمدًا وافتعال ندرةٍ مصطنعة في السوق، هو تمويه لمعادلة اقتصادية واضحة أنّ التحكم المتعمّد بالمعروض هو جوهر الاحتكار ذاته، ولا سيّما في بلدٍ يتغنّى بالاقتصاد الحرّ و«لعبة السوق». وتدخّل كبار التجار أو أصحاب المصلحة الفاعلين في الآليات وتحديد ما يُعرض والسعر، يعتبرونها فرصة لتعظيم أرباحهم.
تتجّه الأنظار اليوم إلى سوق الذهب من جديد. ولكن هذه المرّة ليس بسبب ارتفاع الأسعار أو انخفاضها. ولا الكميات المعروضة والعمولة التي يتقاضاها التجّار. بل بعد زيارة وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت، والمعلومات التي انتشرت عن طلبه فرض قيود على بيع وشراء الذهب، كجزء من الضغوط لتجفيف مصادر تمويل حزب الله. من الإجراءات المطلوبة، والتي لم يتم العمل بها بعد، تعبئة مستندات تتضمن معلومات عن الذي يشتري الذهب ويبيعه، مصدر الأموال، ومصدر الذهب. يقول كورديان «نحن لا نبيع الذهب إلا للتجار الشرعيين والمعروفين، لا نبيع لأي كان، رغم وجود العديد من الدخيلين على المهنة الذي بدأوا العمل بها نتيجة امتلاكهم رأسمال فقط». محلات الذهب، بحسب كورديان ورزق ستكون «تحت القانون»، وأنه في حال طُبّق أي من الإجراءات «سيتم الالتزام بها».
ولكن في حال تصاعدت الضغوط الأميركية في ما خصّ بيع وشراء الذهب، كيف سيتأثر السوق؟ يوضح الخبير في المخاطر المصرفية، والعضو في اللجنة التي شكّلها وزير العدل لوضع الاقتراحات لإخراج لبنان من اللائحة الرمادية، محمد فحيلي أن "التأثير لن يكون مباشرًا على الذهب بالضرورة، بل على الدولار. فالضغط الأميركي قد يُترجم عبر ضوابط على استيراد الدولار وصولًا إلى منع شحنه إلى لبنان. يوضح فحيلي أنّه عندها «سيُفضّل الناس الاحتفاظ بالعملة النقدية بدل استبدالها بالمعدن الذهبي». يُساعد الولايات المتحدة في فرض هذه الضغوط والتحكّم بالاقتصاد المحلي لأنّه «مُدولر بنسبة تفوق الـ90%، ويعتمد على عملة لا يطبعها لتمويل كلّ العمليات التجارية»، يقول فحيلي. ما العمل في هذه الحالة؟ يعتبر أنّ المسؤولية تقع على وزارة الاقتصاد، في فرض رقابة ما تضمن حماية المستهلك، وعدم بيع ذهب مغشوش أو من مصادر غير موثوقة.
ماذا عن ضبط العمولة المفروضة على بيع الذهب محليًا والتي ارتفعت بشكل كبير مع ارتفاع الأسعار؟ يُجيب كورديان، الذي كان قد برّر للتجار والصناعيين تخبئة الذهب للاستفادة من أسعاره وضمان هامش ربح كبير لهم، بأنّه لا يُمكن فرض ضوابط على العمولة لأنّها مرتبطة بالعرض والطلب، فحتى لو ارتفع سعر الذهب من دون وجود طلب، تنخفض العمولة.
يوجد وجهة نظر اقتصادية أخرى، تعتبر أنّه في حال صعّدت الولايات المتحدة ضغوطها على حركة شراء وبيع الذهب في لبنان، فإنّ التأثير سيطال بنية السوق برمّتها. إذ سيؤدّي تشديد الرقابة على التحويلات وعمليات الاستيراد إلى انكماش المعروض وارتفاع بيعه كـ«سوق سوداء»، مع زيادة العمولة، كما فعل عدد من التجّار خلال الأسابيع الماضية حين ارتفعت الأسعار عالميًا فوق معدّلاتها. عوض أن تؤدي الضغوط إلى زيادة الخناق حول حزب الله، سيتعمّق الطابع الاحتكاري للسوق.
يبقى سوق الذهب في لبنان حساسًا لتقلبات الدولار وقرارات كبار التجار، ومع أي ضغوط خارجية، قد ترتفع أسعار العمولات وتزداد صعوبة الحصول على المعدن مع ازدياد الممارسات الاحتكارية. وفي غياب رقابة فعّالة، سيستمر المستهلك في مواجهة سوق غير منتظم ومتقلّب.