استقرار الاقتصاد المصري أداة في خدمة المصالح الإقليمية

الاقتصاد المصري هو أكثر من مجرد مسألة داخلية محلية، بل قضية ترتبط بتوازن القوى في الشرق الأوسط وأفريقيا. حسابات أمنية، نفوذ إقليمي ودولي، تحالفات جيوسياسية... كلها عوامل تؤثر بشكل كبير في المشهد المالي والاقتصادي المصري.
ليس السؤال المطروح كيف تدير مصر تحدياتها المالية وترسم سياساتها الاجتماعية، بل كيف تعيد هذه الأزمة تشكيل موازين القوى من حولها، بدءاً من دول الخليج العربي التي باتت عملياً تمتلك القرار المالي والاقتصادي المصري بعدما عدلت استراتيجيتها من إيداع الأموال إلى شراء الممتلكات المصرية وزيادة الاستثمارات، وصولاً إلى القوى العالمية التي تريد ضبط طرق التجارة، ومنها قناة السويس، وحماية نظام لا يشكل أي تهديد لإسرائيل، بل يساهم في حراسة الحدود المشتركة مع الأراضي المحتلة، مروراً بإسرائيل المتوجسة من عمليات الشراء الخليجية في مصر.
أما داخلياً، ورغم أن السلطات المحلية تظهر تحسناً في عدد من المؤشرات الاقتصادية، وعلى أهميتها، تبقى مجرد أرقام إما لا تعكس الواقع الاجتماعي الفعلي وإما تهدف بشكل مقصود إلى حرف النقاش عن مكامن الأزمة الحقيقية.
نمو دفتري
ركز المسؤولون المصريون خلال الأسابيع الماضية على عدد من المؤشرات لتعكس بدء مرحلة تعافي الاقتصاد المصري:
- الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي حقق نمواً بنسبة 4.5% في السنة المالية 2024-2025، بعدما كان قد بلغ 2.4% في العام السابق. الناتج المحلي معيار لقياس السلع والخدمات المنتجة في دولة ما خلال فترة معينة، أما الناتج المحلي الحقيقي فهو مجمل ما أنتج مطروحاً منه معدل التضخم.
انخفض معدل التضخم إلى 14.9% في تموز عام 2025 بعدما بلغ 38% في أيلول عام 2023. وبالتزامن، خفض البنك المركزي المصري أسعار الفائدة بنحو 100 نقطة أساس.
- انخفاض العجز في الميزان التجاري (أي الفارق بين ما تشتريه من الخارج وما تبيعه إلى الخارج) بنسبة 25% ليسجل 11 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من هذه السنة.
- ارتفاع تحويلات المغتربين إلى 3.6 مليارات دولار شهرياً.
- بلوغ نسبة البطالة 6.1% في الربع الثاني من العام 2025، بعد أن كانت قد بلغت 6.7% في الربع الثالث من العام 2024.
قيمة الدين الخارجي لمصر بلغت 155 مليار دولار في كانون الثاني 2025 بعد أن كانت 168 مليار دولار في الشهر المقابل من 2024.
- ارتفاع الاحتياطات بالعملات الأجنبية إلى 49 مليار دولار في نهاية تموز الماضي مقارنة بـ48.7 مليار دولار في نهاية حزيران الماضي.
استثمارات خليجية وتحويلات مالية جديدة إلى مصر.
الأرقام مضللة
هل فعلاً بدأت مصر تتعافى من أزمتها؟ الجواب المختصر والمباشر: كلا. لماذا؟ لأن المؤشرات الاقتصادية والأرقام ليست كافية، وهي في كثير من الأحيان تكون مضللة وغير شاملة للمعطيات كافة.
النمو الذي يتم الحديث عنه ليس نتيجة إصلاحات داخلية وسياسات اجتماعية عادلة، بل المزيد من الأموال والاستثمارات الخليجية. يكفي أن يكون حجم الديون الخارجية المستحقة على مصر قد دفع السلطة المصرية إلى تخصيص 200 مليون متر مربع من أراضي سواحل البحر الأحمر لصالح وزارة المالية حتى تبيعها أو تصدر سندات الدين، لفهم حساسية وخطورة الوضع. خاصة أن صندوق النقد الدولي أرجأ صرف الشريحة الخامسة من قرضه لمصر، البالغة 1.3 مليار دولار (من ضمن القرض المتفق عليه عام 2022 بقيمة 3 مليارات دولار قبل أن يرتفع في آذار عام 2024 إلى 8 مليارات دولار) حتى الخريف. الهدف الرئيس من التأجيل هو الضغط على الدولة حتى تبيع المزيد من الأملاك، تحديداً المرتبطة بقطاعي التجارة والسياحة، وحتى تقلص مجدداً الدعم لقطاع الكهرباء والمساعدات الاجتماعية.
ويبدو أن السلطة المصرية وافقت على التخلي عن ملكية عدد من أملاكها، الحصة الأكبر من المعروض ستحصل عليها دولة الإمارات. إضافة إلى بيع «رأس الحكمة» للإمارات (بيع أراضٍ بمساحة 170 مليون متر مربع لبناء مدينة متكاملة، بنحو 150 مليار دولار، تتضمن 35 مليار دولار استثماراً أجنبياً مباشراً للحكومة المصرية خلال شهرين، منها 11 مليار دولار إسقاط ديون، و24 مليار دولار تدفقات نقدية ضخت عام 2024، وهو ما يفسر جزءاً من تحسن بعض المؤشرات)، اشترى صندوق الثروة السيادي في أبوظبي القابضة 40.5% مقابل 882.5 مليون دولار في شركة مصرية، اشترت بدورها حصصاً حكومية في سبعة فنادق فئة أولى، لتصبح الإمارات مالكة جزء من السياحة المصرية. وهناك مفاوضات ليقوم بنك الإمارات دبي الوطني بشراء بنك القاهرة، وسط اعتراضات داخلية وتحذيرات من انكشاف الأمن القومي، لامتلاك مصرف القاهرة محفظة أصول كبيرة في شبه جزيرة سيناء، المنطقة التي عبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطته لتهجير أهالي غزة إليها.
إذن، زيادة الاحتياطات بالعملات الأجنبية واستقرار الجنيه والنمو المسجل في الناتج المحلي الإجمالي، هي نتيجة الاستثمارات الخليجية الكبيرة داخل مصر. إضافة إلى التملك، تحتفظ السعودية بودائع تفوق الـ11 مليار دولار، والكويت بـ4 مليارات دولار، وقطر بمبلغ مماثل. وهذا يعني أن هناك نموّاً في الشكل، ولكن هذا النمولا يصب في مصلحة المجتمع المصري وتحسين الخدمات الأساسية للمواطنين، وهو يبقى مرهوناً بقرار الحكومات الخليجية إن كانت ترى مصلحة في ضمان استقرار مصر أم تعريضه لهزة.
ورغم ذلك، سيظل عجز الموازنة الإجمالي مرتفعاً بسبب الفائدة المرتفعة، التي بلغت 47% من إيرادات الحكومة في سنة 2024، ومتوقع أن تبلغ 55% هذا العام.
اقتصاد الأموال الساخنة وتحويلات المغتربين
الحاجة إلى العملات الأجنبية لضبط سعر الجنيه، والإنفاق العسكري، والقيام بمشاريع ضخمة لا تحقق نمواً اجتماعياً، دفع مصر إلى رفع مستويات الفائدة، ما حولها منذ العام 2016 على الأقل إلى وجهة مفضلة للمستثمرين الأجانب. هؤلاء إما أودعوا مبالغ كبيرة في المصارف المصرفية، أو استثمروا في سندات الدين الحكومي والأصول المالية الأخرى. في ذلك العام فقط، ضخ المستثمرون الأجانب أكثر من 17 مليار دولار أميركي. هذه الأموال تسمى «الأموال الساخنة»، أي التي يودعها أصحابها للاستفادة من الفوائد من دون أن تنعكس نمواً اقتصادياً في المجتمع، ويسحبونها بسرعة حين تزيد المخاطر. على سبيل المثال، بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، خسرت مصر حوالي 22 مليار دولار أميركي، ما أدى إلى انخفاض حاد في قيمة العملة، استنزاف الاحتياطيات الأجنبية، ارتفاع التضخم، البطالة، ومستويات الفقر... وهنا تدخلت دول الخليج لمنع انهيار الاقتصاد المصري.
النقطة الثانية هي تحويلات المغتربين، التي احتفل رئيس الوزراء المصري مصطفى كمال مدبولي بأنها بلغت 3.6 مليار دولار في شهر حزيران بزيادة 40.7% عن الشهر نفسه من العام السابق، «وهو ما يعتبر انعكاساً واطمئناناً وثقة المصريين في استقرار وقوة اقتصادهم»، على حد قوله. مدبولي محق بجزء من تحليله، ولكن ما لم يذكره أن تقلص السوق السوداء شجع المغتربين على تحويل الأموال عبر القطاع المصرفي، ما سمح بظهورها في الحسابات الرسمية. ثانياً، إن المغتربين مضطرون إلى زيادة قيمة تحويلاتهم نتيجة ارتفاع الأسعار المحلية، رغم انخفاض التضخم. ثالثاً، القسم الأكبر من المغتربين يحول مبالغ قليلة تكفي فقط لتأمين احتياجات الأسر الأساسية، وبالتالي من الصعب الرهان عليها لتحريك الاقتصاد.
أسباب الدعم الدولي لاقتصاد مصر
يمكن مقارنة الاقتصاد المصري بالاقتصاد اللبناني، الذي رُهن منذ التسعينيات لخدمة الدين العام وبني على الاستدانة من دون الاستثمار في القطاعات المنتجة. اقتصاد التجارة والخدمات وتحويلات المغتربين، الذي وصل عام 2019 إلى ذروته فأحدث أزمة مالية ونقدية واقتصادية لا تزال مستمرة حتى اليوم.
في حينه، سحبت الدول العربية والأجنبية يدها من لبنان، وودائعها، ولم تعمل على منع غرقه كما كانت تفعل دائماً، وذلك بسبب الخلاف حول حزب الله وسلاحه. أما في مصر، فيمكن الاستعانة بتصريح المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لاختصار الوضع: حذر من زلزال سياسي وأمني يضرب الشرق الأوسط بأكمله في حال انهيار نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، مشيراً إلى أن جميع مكاسب إسرائيل الأخيرة في غزة ولبنان "قد تتلاشى في لحظة" إذا ما اشتعلت القاهرة.
تريد الولايات المتحدة من مصر أن تؤدي دوراً في مستقبل قطاع غزة، وتقوم بحماية الحدود لمصلحة إسرائيل. تملك الدول الخليجية والغربية ورقة مهمة لاستخدامها في وجه مصر مع إبرام الاتفاقيات المستقبلية في قطاع غزة وفلسطين. والدول الخليجية التي تسعى أيضاً إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، لا تريد عودة الاضطرابات في الشرق الأوسط، كما حصل خلال «الربيع العربي»، والمخاطرة بعودة الإسلام السياسي إلى الحكم في مصر.
المخاوف الإسرائيلية
التمكين العربي والغربي لمصر لا يأتي من دون مخاوف إسرائيلية عبرت عنها دراسة أعدها مركز «دراسات وأبحاث الأمن القومي الإسرائيلي - INSS» بأن عمليات الشراء الضخمة التي قامت بها دول الخليج في مصر والأردن «تؤثر في إسرائيل وتعرضها لمخاطر... أغنى ثلاث دول خليجية، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، توقفت عن تقديم مساعدات اقتصادية غير مشروطة لمصر والأردن، وتوجهت بدلاً من ذلك إلى عمليات شراء ضخمة لأصول استراتيجية في البلدين، بما في ذلك الأراضي والبنية التحتية الحيوية». وتتخوف إسرائيل، التي أبرمت اتفاقية سلام مع القاهرة، من أن «يؤثر التعاون في تطوير مصادر الطاقة في مصر والأردن على استمرار شراء البلدين للغاز الطبيعي من إسرائيل».
مصر رهينة الخارج
في المحصلة، النمو في الناتج العام المحلي هو نتيجة الأموال الخليجية في النظام المصرفي المصري والاستثمارات الأجنبية التي جعلت مستقبل الدولة مرهوناً بالخارج وبمصالحه مع السلطة المصرية الحالية. وهذا النمو الشكلي لم يتزامن مع تحسين فرص العمل والأجور، فضلاً عن استثنائه القطاع غير الرسمي الذي يبلغ في مصر حوالي 40% من الناتج المحلي. قد يرتفع الناتج ويفرح المسؤولون لتحقيق نمو وتحسين عدد من المؤشرات، ولكنه يخفي حقيقة أنه يراكم التزامات الديون الخارجية، وقائم على بيع الأصول وليس على الإنتاجية المستدامة التي تستهدف تحسين نوعية حياة المجتمع. استقرار الاقتصاد المصري أصبح أداة في خدمة المصالح الإقليمية.