المكان الضائع للاذاعات: رفيقة الطرق ووحشة الليل

حين رحل زياد الرحباني، لم يكن ليمرّ الوقت من دون اللجوء الى اذاعة "صوت الشعب". كانت العودة الى الاذاعةحتميّة، ليس لان زياد الرحباني كان جزءًا اساسيًا في تكوينها، فحسب، بل لأن الاذاعة تحولت على مدى ايام، حاجة ضرورية لسماع زياد الرحباني صوتًا وكلمات وموسيقى. وتحولت الاذاعة التي تقف ابرة الراديو عادة على موجتها، جزءًا لا يتجزأ من مرحلة الحزن على زياد الرحباني واستمرارية سماع ارشيفه الغنيّ. وعلى مدى ايام وساعات، كان زياد رفيقًا دائما.
الامر نفسه حصل خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان، والقضية لا تتعلق بموقف سياسيّ. بل بأن الاذاعة التي يُعرف عنها عادة عدم تدني مستوى اغانيها، استعادت حضورها، عبر اغاني فيروز ومارسيل خليفة واحمد قعبور وغيرهم. في لحظة رجع التاريخ سنوات الى الوراء، وكأن الاذاعة نبشت بعضًا من قديمها.وعادت لتحتلّ موقعها، وتضيء مجددًا، على العلاقة بين جمهور يندثر وبين الاذاعات اللبنانية.
ففي عصر المنصات والمقابلات السريعة والمنحى التصاعدي في بثّ فيديوهات تحوّل كل مسموع الى مرئي، ثمة نوستاجليا يعيشها الذين اعتادوا سماع الاذاعات منذ ان تغيّر الاثير، فلم يعد حكرًا على اذاعة لبنان.
في الساعة السادسة صباحا يخرج صوت الاب يوسف الاشقر من الراديو الصغير، ليعلن بدء القداس الصباحي، وفي السادسة مساء يتحوّل صوته منذ سنوات طويلة ايذانًا بصلاة المساء والزيّاحات بحسب المناسبات الدينية. لا يُختصر تاريخ "اذاعة لبنان الحر" الطويل طبعابالقداس وبصلاة المساء، وهي قطعا ليست اذاعة دينية كـ"صوت المحبة" ، لكنهما مع ذلك يعطيان المستمع "المسيحي" تلك الالفة المزمنة فتصبح رفيقة النساء اللواتي يكبرن بالعمر على وقع صلوات الاشقر او ايلي شويري وميشيلين خليفة وغيرهم، ورفيق القابعين في سيارتهم المعتادين على سماع الاذاعات بدل اللجوء الى الموسيقىعبر التقنيات الحديثة.
هناك مكان للألفة التي رافقت اللبنانيين في الحرب، على الطرقات وفي المنازل وفي الملاجىء، بين الخبر السريع وما كرّسته اذاعة صوت لبنان مع ماغي فرح او وردة لاحقا ، على مدى سنوات برامج واخبار وقضايا، فصار صوت المذيعين رفيقا للباحثين عن خبر او موسيقى او مسرحية. وهناك حيث التدريب على اللغة والالقاء ومخارج الحروف، تصبح الاذاعة محطة راقية، تمتزج فيها اللغة بالثقافة وحسن ادارة الحوار ومتابعة الخبر.
رفيقة الوحشة الليلية ايام الحرب، كما كانت حال برنامج مارسيل غانم "قبل ما يغفى الليل" وفيروزياته في "لبنان الحر" ، او كما حال "صوت الشعب في برامج زياد الرحباني وفي نصف الساعة الصباحية والظهر لاغنيات فيروز او صوت فاتن عزام ولاحقا صوت فاتن حموي وبرنامج بشير صفير" ما حدا مات" عن الموسيقى الكلاسيكية، ومسرحيات زياد او الاخوين رحباني.
ثمة انطباعات تبقى دوما في ذاكرة الذين لا يزالون يحنّون الى الاذاعة، ليس كمصدر خبر، انما كعلاقة مستمرة تقليدية، في اللجوء عند "الا ربع" الى " لبنان الحر"و"الربع" الى "صوت لبنان" والنصف الى "صوت الشعب". وكل ذلك، في دورة حياة يومية، تتعزز مع نوعية الموسيقى والاغاني التي يهبط مستواها عن البعض ويرتفع عند الآخر.
تغيّرت الاذاعات وهوياتها منذ الحرب، توقفت اذاعة "صوت الجبل"، وكذلك اذاعة "صوت الوطن"، واذاعات اخرى مناطقية، وحلّت محلها اخرى سياسية، كاذاعة " النور"وحوارات بثينة عليّق. وتبدّل على مدى سنوات مفهوم سماع الاذاعة، التي لم تعد تكتفي بالصوت بل صار بعضها منصة لبثّ مرئيّ مباشر. ولم تعد الحاجة سريعة عند اي حدث امني او سياسي الى سماع الاذاعة، في ظل التقنيات الاعلامية الحديثة. الاكيد ان جماهير مختلفة تتبع الاذاعات، وليس المقصود هنا جمهورا مختلفًا في ثقافته واهتمامه يتبع اذاعتي Lightfm او Nostalgie ، لكن المقصود ذلك الذي يبحث عن تماه مع مراحل سابقة. هي الاذاعة التي كانت تنبىء بانفجار او قطع طريق او قصف، وهي الاذاعة التي تخفف وحشة ليل العنف والتهجير والتنقل بين المناطق المعتمة ، وهي التي رافقت التفجيرات والتظاهرات والثورة والاعتصامات . لكنها فيوقت السلم تصبح اقلّ ألفة، ولا تعود الملجأ اليومي الى سماعها. ومع ذلك الباحث عن الضائع في الاذاعة لا يجد ملجأ له في كل الفورة الاعلامية والمنصات التي تنشأ يوميا. لعلّه الحنين الى مفاهيم راسخة ولو تبدلت الاصوات والتجارب، او البحث عن اصوات راقية وضائعة في زمن الاستسهال، وعن نشرة اخبار، او حوار، او اغنية وموسيقى او صلاة، ما يؤنس القابعين في بيوتهم او السائقين في صباحات ومساءات يلتقون فيها مع الاذاعة. ايّا كانت هويتها.